العمق العربي المدمر

03:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

في خضم التداعيات والأحداث والحروب والاضطرابات التي جاءت تزامناً أو في أعقاب ما يسمى الربيع العربي، عاد المحللون والمراقبون إلى استكناه النواتج السلبية، بعدما غطست تحت سطحها النواتج الإيجابية، واتضح لهؤلاء أن العمل العربي في ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، قد تعطل تماماً، بل إن الاستراتيجية العربية لهذا الصراع انكفأت وانزوت بعيداً عن مشهد هذا الصراع، إن لم نقل حقيقة لم تعد موجودة أصلاً في أجندات العمل العربي في هذه المرحلة .

ومن هذا الاستهلال، أردت الإشارة إلى حديث الكاتب محمد حسنين هيكل مع القناة التلفازية سي بي سي مؤخراً، الذي قال فيه، إن مستقبل دول المنطقة في خطر حقيقي في ظل عمق عربي مدمر، وتراجع القوة الامريكية أمام روسيا والصين، مضيفاً أن العالم العربي يسير وبسرعة شديدة إلى الهاوية من دون أن يسأل نفسه إلى أين؟ .

لا أحد ينكر حقيقة ما آلت إليه الأمور في بلدان الثورات حتى هذا الوقت، فهذه البلدان لم يستقر مسار تحولها، كما لم تتحدد هويته، وفي العموم يظل المشهد مضطرياً، ونحن هنا نتحدث عن تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ومن خارج نطاق هذه البلدان يمكننا الإشارة إلى العراق ولبنان، اللذين يتأثران بشكل مباشر أو غير مباشر، بتداعيات ما يجري من سوريا، التي تعيش وضعاً لا تُحسد عليه، في ظل الحرب التدميرية التي تجتاحها، وبالتالي فإن هذه التداعيات والظلال السلبية، منحت الدولة الصهيونية، فرصة مشجعة لا تعوض، كي تعمل على استمرار هذا الخلل القائم في المنطقة لمصلحتها، بغرض التحرر من أي ضغط عربي أو حتى دولي سواء ما يخص الحرب أو السلام .

بلدان المنطقة في تشاغل داخلي، ولا يعرف أحد على وجه التحديد المدى الزمني الذي تخرج منه هذه البلدان من أزماتها على تنوعها وأشكالها، وإن كانت المؤشرات السائدة تشير إلى المدى المفتوح، وهذا يعني أن حالة الاضطراب وإن تفاوتت بين بلد وآخر، إلا أن هذه الاضطرابات على المديات المرحلية وحتى الاستراتيجية، ألحقت ضرراً كبيراً في قوة العرب العسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، إلى درجة باتت المواقف العربية في المحافل العالمية، غير مؤثرة، ولم تعد القضايا العربية تحظى بالاهتمام والتأييد .

وحتى لا نذهب بعيداً، من المفيد أن نشير إلى موقف قريب جرى في التاسع عشر من الشهر الجاري في العاصمة النمساوية فيينا، عندما انعقد المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إذ جرى التصويت على قرار مشترك قدمته مجموعة الدول العربية يركز على أن إسرائيل هي الدولة العاصية والوحيدة في الشرق الأوسط التي تسعى إلى امتلاك السلاح النووي واستعماله .

وكانت نتيجة التصويت في غير مصلحة العرب، عندما صوتت ضده 51 دولة، وساندت 43 دولة، في حين امتنعت 36 دولة عن التصويت وتغيّبت 26 دولة، وبدا واضحاً تصويت بلدان الاتحاد الأوروبي وسعيهم إلى إفشال القرار ووقوفهم إلى جانب إسرائيل، وهذه البلدان لها مصالح اقتصادية كبيرة مع بلدان المنطقة، بيد أنها وبسبب تشاغل بلدان المنطقة بأوضاعها الداخلية وفقاً لما أشرنا إليه آنفاً، فإن بلدان الاتحاد الأوروبي مدركة أن الجهد العربي في هذه المرحلة، إنما هو منصب بكل ثقله على هذا التشاغل، وليس هو بوارد التوجه نحو مقارعة إسرائيل .

وبهذا الواقع السائد والمضطرب في آن، فإن من الطبيعي أن يتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، عربياً وإقليمياً ودولياً، الأمر الذي يجعل عمقها العربي المتخلخل والمضطرب والمأزوم وحتى المدمر، ليس له تأثير وفائدة مرحلياً على الأقل، بل إن العمق الإسلامي هو الآخر بات غير مؤثر في هذا الجانب، إذا ما أراد تقديم الدعم والتأييد، ما دام أهل القضية أنفسهم يرزحون تحت هذا الواقع التشاغلي والتدميري، الذي لا يعرف أحد نهاية مداه الزمني في ظل استمرارية الأوضاع وتأزمها على النحو السائد، بما يجعل المراقبين يذهبون تشاؤماً في التوصيف، واعتبار هذا المدى مفتوح الزمن، ومثل هذا التوقع إذا ما حصل، فهذا يعني استنزاف بلدان المنطقة سياسياً واقتصادياً وبشرياً وعسكرياً .

إذاً العمق العربي، يمثل بلدان المنطقة العربية برمتها، وهو يتعلق بإمكانات وقدرات العرب ومدى تسخيرها في مواجهة الدولة الصهيونية وفي مواجهة كل الاستهدافات الخارجية التي تتربص بهذه البلدان، وخاصة على محور الصراع العربي-الإسرائيلي، وإن أي عملية ترميمية إذا ما جرت في المستقبل القريب أو البعيد فإن هذا العمق، وعلى افتراض نهاية الأحداث والاضطرابات، لن تكون هي العلاج الشافي والحاسم، نظراً لما ستحفل به التداعيات والترسبات والنواتج من تحولات على صعيد العلاقات العربية- العربية، والعربية -الدولية .

ففي ذلك الوقت، تحتاج بلدان المنطقة إلى هيكلة وتأسيس أسس جديدة على الصعد كافة، حتى يكون بمقدور السياسات في المنطقة ابتداع استراتيجيات مواكبة لظروف هذه الهيكلة، التي من أول أهدافها، الارتقاء بالقوى العسكرية إلى مصاف التوازن مع الكيان الصهيوني، وجعل هذه المعادلة قائمة وموجودة ميدانياً، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بوجود عملية سياسية ناضجة ومصاعد اقتصادية داعمة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"