تحولات الديمقراطية الأوروبية

03:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تشهد دول الاتحاد الأوروبي، مع نهاية هذا الشهر أي خلال الفترة الممتدة ما بين 23 و 26 مايو/‏أيار، انتخابات تجديد نواب البرلمان الأوروبي، وذلك في خضم أجواء سياسية عاصفة تتميز بانتشار غير مسبوق لحالة من الشك بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته في بروكسل، وبخاصة بعد استفتاء «البريكست» في المملكة المتحدة سنة 2016، إضافة إلى الانتشار غير المسبوق للتوجهات الشعبوية في الأغلبية الساحقة من الدول الأوروبية؛ ويذهب الملاحظون للشأن الأوروبي إلى أن انتخابات هذا الشهر، ستسهم بشكل كبير في تحديد معالم مستقبل الكيان الأوروبي الموحّد.
وكانت فكرة إنشاء تجمّعٍ سياسي واقتصادي أوروبي، قد انطلقت بشكل تدريجي مباشرة بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، واعتمدت على اجتهادات الفلاسفة الأوروبيين، الذين طالما أكدوا أهمية القيم المشتركة التي تحملها الحضارة والثقافة الأوروبيتين بالنسبة لشعوب القارة التي شكلت بلدانها الغربية مهد الثورة الصناعية والعلمية الحديثة، واستطاعت أن تغيّر بشكل حاسم موازين القوى، وأن ترسم ملامح الجغرافيا السياسية للعالم مع بداية عصر الأنوار.
ويشير لوك فيري في قاموسه الصادر سنة 2018 إلى أن كلمة أوروبا تحيل من حيث معناها الاشتقاقي في اللغة الإغريقية إلى مصدرين، يشير الأول إلى العين والثاني إلى النظرة الواسعة، وتتحدث الأسطورة اليونانية عن أميرة فينيقية فاتنة تملك عينين واسعتين شغفت بحسنها وجمالها كبير الآلهة في اليونان القديمة، كما يرمز المعنى الأصلي لكلمة أوروبا في اللحظة نفسها إلى القارة الواسعة الفسيحة المنفتحة على الآخرين، قارة تملك بعداً كونياً وفكراً واسعاً، وتنظر إلى ما هو بعيد لكي تعرف وتفهم نفسها، وهي مهد الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ويؤكد فيري في السياق نفسه، أن الجذور المسيحية للثقافة الأوروبية لم يمنعها من أن تكون علمانية في المقام الأول منذ تأسيس الحداثة الأوروبية.
لكن هذا التوجه التنويري للقارة العجوز، بدأ يخفت بريقه خلال السنوات الماضية، وباتت الديمقراطية الأوروبية تعرف تراجعاً غير مسبوق، وهي الظاهرة التي سعى إلى دراستها وتوثيقها المفكر مارك لازار في مؤلفه المشترك مع إلفو ديامانتي الموسوم: «الشعب-قراطية، التحولات الكبرى لديمقراطيتنا»، والذي استعرض فيه الكاتبان التغيّرات المفاجئة التي حدثت على مستوى المنظومات السياسية للدول الوطنية في أوروبا التي تعرف عودة لافتة لتيارات اليمين المتشدد، الذي يريد أن يُفرغ الديمقراطية من مضامينها الإنسانية وتحويلها إلى مجرد آلية لفرض سلطة الأغلبية الشعبية المطلقة على باقي فئات المجتمع.
وتهدد التوجهات الشعبوية الراهنة في أوروبا، الديمقراطية الليبرالية؛ من حيث إنها ترفض بشكل كامل مؤسسات الدول الوطنية وتروّج لنموذج سياسي لا يعارض فقط الطبقة السياسية الحاكمة، لكنه يعمل على إقصاء كل النخب السياسية المسيّرة والمعارضة على حد سواء؛ وتدعي هذه التوجهات أن الشعب يمكنه أن يحكم نفسه بشكل مطلقاً بعيداً عن كل معارضة حقيقية تستطيع أن تشكل سلطة مضادة، وتُسهم من ناحية في تحقيق نوع من التوازن في ممارسة السلطة داخل الدول، وفضلاً عن ذلك، فإن هذه التوجهات الشعبوية ترفض الممارسة السياسية القائمة على التنافس ما بين الأحزاب، وتقول إن الشعب يمكنه أن يحكم نفسه مباشرة ومن دون وساطة، لاسيما من خلال عمليات الاستفتاء المباشر، وفق ما تدعو إليه حركة السترات الصفراء في فرنسا.
وبالتالي فإنه وعلى خلاف الديمقراطيات الأوروبية التي تطوّرت انطلاقاً من قيم إنسانية منفتحة وكونية، فإن التيارات الشعبوية الحالية في أوروبا تسعى إلى الدفاع عن هويات قومية منغلقة وتدفع المواطنين إلى اتخاذ مواقف رافضة للأجانب، وإلى الترويج لثقافة الكراهية ضد الجاليات المسلمة في أوروبا.
وتسعى التيارات الشعبوية في أوروبا الآن، إلى ملء الفراغ الناجم عن أفول الأيديولوجيات الكبرى التي ظلت مهيمنة على المشهد السياسي في القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعمل على دغدغة مشاعر العامة من خلال المبالغة في تمجيد الشعب وصولاً إلى تقديسه ووضعه فوق كل القوانين والمؤسسات، واعتماداً أيضاً على شيطنة كل المؤسسات القائمة واتهامها بالتآمر على الشعب.
وتستند هذه التيارات على سلسلة من الثنائيات الصارمة مثل إما أن تكون مع أو ضد، وإما أن يكون الأمر جيداً بشكل كامل أو سيئاً بشكل مطلق.. إلخ.
لقد أضحت الديمقراطية الليبرالية في أوروبا مهددة بشكل جدي من قبل «ديمقراطية عامة» يمكن تسميتها بالشعب-قراطية، تسعى إلى تجاوز الديمقراطية التمثلية ودولة القانون والمؤسسات؛ وعندما تنتصر الأيديولوجيات الشعبوية كما حدث في المجر والنمسا، فإنها تخلق حالة سياسية يمكن وصفها بالديمو-ديكتاتورية، تقوم على إفراغ الديمقراطية من كل مضامينها السياسية وتحويلها إلى آلية للصندوق تضمن حصول الأغلبية على السلطة، لكنها لا تحترم في المقابل رأي الأقلية. ويمكن القول في خاتمة هذه المقاربة إن التيارات الشعبوية في أوروبا، تسعى إلى الفوز بالانتخابات المقبلة للتأثير على مسار التغيير في أوروبا من داخل مؤسساته الرسمية، من أجل إنهاء حلم أوروبا الكونية والعابرة للقوميات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"