المثقف الخاوي في الأمة الضائعة

03:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

عندما خاب أمل الشاعر الأمريكي ت. إس. إليوت في مثقفي عصره وصفهم بألم وحسرة: نحن رجال الخواء/نتمايل ورؤوسنا مليئة بالقش/بينما أصوات همساتنا الجافة هادئة ولكن من دون معنى. نحن بحاجة الآن لشاعر عربي يعبر عن ظاهرة خواء نفس الكثيرين من مثقفي العرب وعن حالة اللامعنى التي يعيشون.

حول طاولة فطور، في أحد فنادق عاصمة عربية، جلست ساكتاً متمعناً ساعتين وأنا استمع لعينة من مثقفي العرب الجدد، مرت ساعتان كاملتان وهم يتحدثون حول موضوع واحد: ما جرى في بيروت من صدامات بين قوى الموالاة وقوى المعارضة قبل يومين من انعقاد مؤتمر المصالحة الشهير في الدوحة. كان وصفاً دقيقاً لكل تفاصيل ما حدث على الأرض وقراءة متعسفة للنوايا ولوماً جارفاً لجهة واحدة وتبرئة كاملة لجهة أخرى.

انتظرت أن يتحدث أحد عن الأسباب التي قادت إلى تلك الصدامات، عن الجهات الأجنبية والمحلية التي رسمت سيناريو ما قبل الأحداث، عن الكثير الكثير الذي كتب عن الدور الصهيوني في هذا الموضوع، لكن انتظاري طال، فالعقول والقلوب، كانت مركزة على الجانب الطائفي البحت من الموضوع، وكانت مصرّة على استبعاد الجوانب السياسية والتحررية من النقاش، كان الهدف هو إظهار كل ما يجرح المقاومة اللبنانية وأهدافها التحررية وتحالفاتها العربية والإقليمية وإلباسها من الرأس إلى القدم عباءة الطائفية، وفي الوقت نفسه طمس كل ما يشير إلى الأدوار الصهيونية، والأمريكية والأوروبية والإقليمية في تمثيلية الشيطان فوق المسرح اللبناني.

كل شيء يتعلق بالأهداف والالتزامات القومية العربية وبمنطق الأخوة الإسلامية غاب عن ساحة النقاش وحلت محله شعارات الليبرالية العولمية الجديدة الحاملة لكثير من الزيف والنفاق المستهترة بكل القيم والمبادئ والمستهزئة بكل الأسس السياسية التي تعبت البشرية في جمعها وترسيخها عبر القرون.

كان واضحاً أن الجالسين ينادون بتوقف ما يعتبرونه عبث المقاومة العربية للإمبريالية والمشروع الصهيوني وبانتهاء كل أنواع الحروب مهما كانت المبررات، بما في ذلك حروب الحرية والدفاع عن النفس ودحر الاحتلال، كان المطلوب خواء عقائدياً وعيشاً مساوماً حتى ولو اقتضى الأمر أن تصبح الأوطان بضاعة حسب مقاس ومواصفات اعلان.

سألت نفسي: أي سقوط مذهل ذاك الذي قاد كاتباً إسلامياً رزيناً ليصبح داعية طائفياً حتى النخاع، وقاد إعلامياً كان مناضلاً يسارياً ضد الاستعمار ليصبح ضد أي نوع من الصراع مع المستوطنين والمحتلين في كل بلاد العرب؟ قلت في نفسي هل سيكون المثقفون العرب أول من سينطبق عليهم ما قاله المفتش الكبير للمسيح، في رواية الإخوة كرامازوف للروائي الروسي ديستوفسكي، إن البشر لا يريدون الحرية ولا يرحبون بمن سيقودهم إلى الحرية؟ هل أصبح بعض المثقفين العرب من الذين لا يستطيعون حمل الأمانة الإلهية ويرفضون حتى أن يحملها غيرهم؟

في تلك الجلسة المملة الحزينة تذكرت القول المأثور إن العقول العظيمة تناقش الأفكار، والعقول العادية تناقش الأحداث، أما العقول الصغيرة فتكتفي بالحديث عن الناس، كان النقاش حول الأحداث وحول تلويث سمعة هذا المناضل أو ذاك، كان هناك خلط بين المعرفة والذكاء، بين كوب الحليب والبقرة، من هنا ضاعت كل قضايا الأمة الكبرى في قش أحداث زواريب بيروت، والمثقفون الذين قال عنهم نيتشه إنهم عادة الأقوى والذين لا يجدون سعادتهم إلا حيث يعجز الآخرون، هؤلاء المثقفون من العرب لم أجدهم في ذلك اليوم، كما افتقدهم دوماً في كثير من الاجتماعات والمؤتمرات العربية.

إننا نتلهف على رؤية مثقفين لا يملأ رؤوسهم القش القذر وإنما تمتلئ رؤوسهم بالأفكار والأحلام والآمال العظام. نحن بحاجة لكتلة مثقفين عرب ينطبق عليها ما قاله الكاتب الفلسطيني ادوارد سعيد إنها تعنى بإثارة أسئلة الأخلاق والفضائل وبحمل رسالة وفلسفة تسبق الرأي العام، لكن في أيامنا السوداء التي نعيش يتعثر كل ذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"