عادي
«فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»

البلاء المبين

22:56 مساء
قراءة 3 دقائق
1

د. سالم الشويهي

تعددت صنوف الابتلاء على إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فبعد أن شبَّ غلامه الوحيد، الذي أتاه عن كبر وطول انتظار، يأمره الله عز وجل في رؤيا منامية (ورؤيا الأنبياء حق ووحي) بذبح ولده، ولم يقل له: أرسله إلى من يذبحه، ولكن باشر أنت بنفسك الذبح لولدك البكر؛ ليعظم البلاء.

إنه موقف لا يطيقه البشر، فضلاً عن إبراهيم الشيخ الكبير.. ولكنه أمر من الله فهل يتردد؟ كلا، ولو كان الأمر فوق الاحتمال. «فَلَمَّا بَلَغَ» الغلام «مَعَهُ السَّعْيَ»، وبلغ سناً يكون فيه أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، قال له إبراهيم عليه السلام: «يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ»، أي: قد رأيت في النوم رؤيا، أنَّ اللَّهَ يَأْمُرُنِي بذبحك، «فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى» قال إسماعيل، مرضياً لربه، وباراً بوالده: «يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ»، أي: امض لما أمرك اللّه «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى، فمن طلب من الله الصبر والثبات أعانه الله فيما أراده، ومن وثِق بنفسه فثم الخذلان والضياع ولم يبلغ مراده. ويا لروعة الإيمان والطاعة والتسليم.. مع أنه غلام صغير إلا أن نفسه كبيرة

«إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ» كما قال عنه المولى الجليل، فإبراهيم شيخ كبير يُرزق في كِبره بغلام طالما تطلع إليه. ما يكاد يأنس به، ويستروح بهذا الغلام الوحيد، وحب الولد عظيم كما في الحديث: «إِنَّ الْوَلَدَ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ» فالإنسان إذا رزق الولد جَبن استبقاء لنفسه وبَخِل بماله من أجله، وليس أي غلام، بل كما شهد له ربه جل في علاه «غُلَامٍ حَلِيمٍ».

والأمر أن يتولى هو ويباشر بيده ذبحه بنفسه، لا أن يكلف غيره بذلك.

إن كل ما يملكه الإنسان من الخيال لا يستطيع أن يصور تلك اللحظة الرهيبة، لحظة أن همّ إبراهيم بذبح ولده الحبيب الحليم النجيب، استجابة لأمر الله الحكيم العليم. فطرح إبراهيم ولده الوحيد واستلّ سكينه ليذبحه «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ».

يا الله ما أعظمه من إيمان! ويا الله ما أعظمها من طاعة وتسليم!

شيخ تتمزق مهجته... تتندى بالدمع لحاه

وغلام جاء على كبر... يتعقب في السير أباه

والمشهد يبلغ ذروته... وأشد الأمر وأقساه

إذ تمرق كلمات عجلى... ويقص الوالد رؤياه

وأُمرت بذبحك يا ولدي... فانظر في الأمر وعقباه

ويُجيب العبد بلا فزع... افعل ما تؤمر أبتاه

لن أعصيَ لإلهي أمراً... من يعصي يوماً مولاه؟!

ويهم الشيخ لغايته... ويشد الابن بيمناه

واستلّ الوالدُ سكّيناً... واستسلم ابن لرداه

ألقاه برفق لجِبين... كي لا تتلقى عيناه

أرأيتم قلباً أبوياً... يتقبل أمراً يأباه؟

أرأيتم ابناً يتلقى... أمراً بالذبح ويرضاه؟

ويقولُ الحق ورحمتهُ... سبقت بفضل عطاياه

صدّقتَ الرؤيا لا تحزن... يا إبراهيمُ فديناه

لقد نجح إبراهيم في الابتلاء نجاحاً باهراً، فنزلت رحمة أرحم الراحمين: «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»، «إِنَّ هَذَا» أي: الذي امتحنا به إبراهيم «لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ» أي: الذي تَبيّن به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته لمولاه «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»، أي: فداء لإسماعيل، فَصَارَت الذَّبَائِح والقرابين من الْهَدَايَا والضحايا سنة فِي أَتْبَاعه إِلَى يَوْم الدين. وكل مواقف إبراهيم، يأتي الفرج فيها في آخر لحظة والفرج دائماً ما يأتي بعد شدة العسر ولذلك لا تيأس

إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ... وَضَاقَ لِمَا بِهَا الصَّدْرُ الرَّحِيبُ

وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا... وَلَا أَغْفَى بِحِيلَتِهِ الْأَرْيبُ

أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ... يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ

وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ... فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ja8yuzj

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"