عادي

في أسئلة «القوة الناعمة»

23:15 مساء
قراءة 4 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن
كل كتابة بحاجة أن تبدأ من سؤال، تفككه وتحلله، وتبحث عما فيه من منطق وموضوعية وآفاق مطروقة أو غير مطروقة، وفي اتجاه إجابة قد تتحقق، وقد لا تتحقق.

إنها لعبة السائل والمسؤول، والهوس الدائم بفلسفة التساؤل وثقافته، ولتبقى تجربة الكتابة مشتعلة ومتفاعلة، ومنفتحة على الاتساع في الرؤية والألق الفكري والتفكر، والمهم هنا أن لا تضيق العبارة طالما ظلت مسؤولة، كالحرية والتي هي مسؤولة ومسؤولية.

في سؤال السياسة، تحضر أمريكا، الدولة العظمى، كمشكلة لأصدقائها ولحلفائها، مثلما هي مشكلة أيضاً لأعدائها أو منافسيها في آن، إذا حضرت أكثر من اللازم، أو غابت أكثر من اللازم.

وإذا انجرحت تتغول، إذا صادقت يتحمل أصدقاؤها قساوة التعامل معها، وأحياناً فحاشة تعليقاتها وطلباتها وتدخلاتها.

دورها في العالم اليوم شديد التعقيد، تُطارد في أكثر من موقع جغرافي، تمارس ألعاباً تقترب من «حافة الهاوية» ويختلط في هذا الدور حابل حقوق الإنسان ودعاوى الديمقراطية، بنابل شهوة الهيمنة وغرور القوة، وأحلام السيطرة الأبدية الأحادية على النظام الدولي.

في ظل هذه التطورات، تراجعت مكانة «القوة الناعمة» الأمريكية.

في سؤال الهوية وأسئلة الهجرة، في الفكر الفلسفي والسياسي الأوروبي الحديث، تبدو الذات أو «الأنا»، هي مركز كل شيء، بدءاً من السيطرة على الطبيعة والأشياء المادية المحسوسة، بما فيها القيم، فضلاً عن «الآخر»، ويقول الدكتور محمد عابد الجابري، في حديث صحفي له قبل نحو عشر سنوات: «إن سؤال الهوية، يعني «الأنا» المكثفة، وسؤال «الإدماج» لا يعني سوى السيطرة، وسؤال الهجرة والمهاجرين يعني «الآخر» موضوع السيطرة».

في حين أن سؤال الهوية، في المرجعية الحضارية الإسلامية، يشمل (الآخر) بمعنى (الغير) المختلف وقد يكون هذا (الغير) قريباً من (الأنا) في الجوار والعلاقات والمعتقدات، ولا يعني النفي والإقصاء، حتى لو اتسع الاختلاف.

وفي سؤال الثقافة العولمية، يتطلب التفكيك والتحليل، النظر في المتغيرات الجارفة، بدءاً من إيقاع الضغوط التي صارت أكثر اتساعاً وأكثر سطوة وكثافة وأعمق نفاذاً، وتسلح هذه الثقافة العولمية بأحدث طاقة تكنولوجية وعلمية واقتصادية وإعلامية، وبثورة هائلة في المعلومات والاتصال. وصار سلطان الصورة الزاحفة عبر الفضاءات المفتوحة، بديلاً عن سلطان الأسرة والمدرسة، ولم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد وسائل للترفيه، إنما تحولت إلى أداة فعالة في تعبئة الرأي العام وصناعته وتوجيهه، وتولدت «الدبلوماسية الرقمية» في فضاء عالم التواصل الاجتماعي، وبلغات كثيرة واستخدمت خبراء وجيوشاً من العاملين، وبحوافر مادية عالية، لترويج سياسات وأفكار وقيم، وثقافات ومعارف وأنماط حياة والأكثر تأثيراً في فعلها، هو «جدول أعمالها» الثقافي وبناء صرح «القوة الناعمة».

وفي سؤال مؤشرات التنافسية العالمية، يبدو أن الحديث عن السبق الذي تحققه أية دولة في هذه المؤشرات، يبقى ناقصاً، حينما نتحدث عن دول الخليج العربية. نادراً ما نتحدث عن مؤشر ارتفاع نسبة الاستهلاك النهم في المياه والغذاء والطاقة الكهربائية وغيرها، إلى درجة تسمى بالاستهلاك «السوبر مكثف».

ومنذ بضع سنين تحدث باحث خليجي عن مخاطر تحويل الصحراء إلى «ملعب غولف أخضر» في منطقة تعتبر الأفقر في مصادر المياه العذبة الطبيعية، وفوق ذلك، تم استهلاك المياه الجوفية، والتي تكونت على مدى ملايين السنين.

وفي سؤال «القوة الناعمة»، التي بلور مفهومها المعاصر الجنرال الأمريكي المتقاعد البروفسور جوزيف ناي، من جامعة هارفارد، وأصبح لها مؤشر عالمي لقياسها، يبدو أنه سؤال صعب ومركب، باعتبار أن بناء «القوة الناعمة» كعنصر جذب وإقناع وتأثير، يتطلب وقتاً أطول نسبياً من بناء «القوة الصلبة» أو الخشنة، فالصين مثلاً، وعلى الرغم مما تملكه من مصادر هائلة لقوتها، سواء كانت عسكرية أو تكنولوجية أو اقتصادية، إلا أن مكانتها في مؤشرات القوة الناعمة تعتبر متدنية.

ودولة أخرى، صغيرة، على الرغم من ثروتها الهائلة، وما أنفقته من المليارات من الدولارات لبناء «قوة ناعمة» لها، لم تنجح، بسبب غياب رؤية تنموية شاملة، وثقافة جاذبة وفنون راقية، ونتاج علمي ومنظومة قيم مقنعة، وعمق تاريخي أو ديني، أو تراثي مميز.

يثير سؤال «القوة الناعمة» إمكانية تراجعها أو ضعفها، بعد قوة تأثير، عند حدوث تراجع إلى قدر معين من النجاح الاقتصادي، وضعف في العمل السياسي والإنساني، وفي الإطار التنظيمي الذي يقود المجتمع، وتراجع في رصيد رأس المال الأخلاقي والقيمي للدولة، وانتشار الفساد وغياب القانون، واهتزاز مكانة النموذج والسلعة المميزة والرموز المجتمعية... الخ.

نجحت الإمارات في تبوأ المرتبة الأولى إقليمياً، والعاشرة عالمياً في مؤشر «القوة الناعمة» العالمي لعام 2022. وقدمت نفسها كقوة جاذبة لا كقوة طاردة، وموقع ملهم على خريطة الأعمال والثقافة والانفتاح، وقيم التسامح، والإعلام والتعليم والعمل الإنساني المؤثر، وتمكين المرأة والشباب، والتأثير في مؤسسات التعاون الدولي، وفي الرأي العام، بالإقناع والجاذبية ومن غير إكراه، ومن خلال الأفكار والممارسات والنجاح الاقتصادي، وحكومة ذات كفاءة وديناميكية تقود المجتمع، وأدوار إقليمية ودولية مؤثرة في قضايا العصر من مناخ وطاقة متجددة ونزاعات وأوبئة وثقافة، وحماية كرامة الإنسان وحقه في الحياة.

أسئلة «القوة الناعمة» مطروحة علينا ككتّاب ومثقفين، ومن أمثلتها: هل لدينا مراكز ثقافية في دول العالم؟ هل ما لدينا من صحافة وطنية ومسرح ومنشورات ورواية وشعر وفنون شعبية صالحة لتكون عناصر إضافية مهمة في منظومة «القوة الناعمة» في المرحلة القادمة؟

سؤال «القوة الناعمة» مفتوح لتطوير عناصر جديدة في حقول الثقافة والصناعات الإبداعية، وتمكين رموز ومنتجات وسلع، لتوسيع قاعدة «القوة الناعمة» وهي قاعدة قائمة على الحكمة والقدوة والنموذج الملهم، والقيم الإنسانية الجاذبة والثقافة المبدعة، والمعرفة النافعة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ynsfrxxa

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"