عادي

حينما توقف الغناء الرفيع

23:03 مساء
قراءة 5 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

كتبت، منذ أيام، عن الغناء الجميل المؤثر في الوجدان والأفئدة، والعابر للمسافات والأزمنة والحدود الجغرافية، والمحفز للمحبة والطهر والتفاعل الإنساني، والمخاطب ما فينا من حنين إنساني مشترك.

واليوم، أستحضر أم كلثوم، الشعر والغناء، والذائقة الفنية، والأداء الإبداعي، والتي ارتقت بالغناء، ورفعت قدره ودوره الاجتماعي، وأعادت للغة العربية الفصحى اعتبارها، وارتقت بالعامية. وانتزعت عن جدارة احترام المجتمع، وشكلت ظاهرة فريدة في تاريخ العلاقة بين الشعر والغناء.

نقلت الغناء العربي من حضيض الإسفاف في الكلمة واللحن، والمتع الرخيصة، و«غناء الليل» من أجل الربح السريع، إلى ذرى الجمال، أداءً ومعنى وشعراً ولحناً، وصفقت لها الجماهير العربية ونخبها، وهتفت باسمها «كأنها زعيمة وطنية وقومية، لا كمغنية».

أستحضر سيرتها، سيرة «ست الكل» كما وصفها المصريون، وفي الذاكرة، «ڤيلا» أم كلثوم في شارع أبي الفداء بالزمالك وأمسيات أول خميس من كل شهر، حينما كان يتجمع عشاق صوتها، أمام أجهزة الراديو، لسماعها وهي تغني للمحبة والشوق والفراق، وتنشد للأوطان وللنهوض، وتمزج الحماسة الوطنية بالأشواق الروحية الدينية النقية.

عرف جيلي الكثير من نصوص شعرية عظيمة لشعراء عرب عبر العصور من خلال أغاني أم كلثوم، أكثر مما عرفه من دواوين هؤلاء الشعراء، وربطت بين موروثات شعرية في أزهى عصور الشعر، وبين أشعار الحاضر، وحققت بذلك تواصلاً حضارياً رائعاً.

عشقت الشعر، وقرأته بشغف وتذّوق، ورأى فيها جمال عبد الناصر، (فلاحة مصرية بحس وطني رفيع)، وشخصية عصامية النشأة والتكوين، ووليدة «الإنشاد الديني»، ونجحت بامتياز في صقل حسها اللغوي، وقرأت الشعر القديم، و«كتاب الأغاني» و«حماسة أبي تمام» وغنَّت لأبي فراس الحمداني (أراك عصي الدمع) والشريف الرضي، ولأكثر من خمسين شاعراً، وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي.

استضافها رؤساء دول عربية في بيوتهم، ومنحها ملوك ورؤساء الأوسمة الرفيعة، وتفاعلت مع أحداث مهمة في تاريخ مصر ودول عربية أخرى، وأبدعت في تقديم نشيد «والله زمان يا سلاحي» الذي أصبح نشيداً وطنياً لمصر، قبل تغييره إلى نشيد «بلادي بلادي» وقامت بجولات غنائية إثر حرب 1967، إلى فرنسا والمغرب وتونس ولبنان والسودان وغيرها، وجمعت أموالاً لدعم المجهود الدفاعي الحربي لبلادها، وأثارت الحماسة والوطنية في وجدان الناس، وغنت في أبوظبي بعد الاستقلال، وأهداها المغفور له الشيخ زايد، عقداً من اللآلئ الطبيعية، يعود إلى عام 1880، عرفاناً لقيمة أم كلثوم في فن الغناء الرفيع، وحسها الوطني الأرفع.

تغنت أم كلثوم بمولد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبشمائله وبإسرائه ومعراجه، وصارت أغنيتها «ولد الهدى» معلماً من معالم تاريخ المديح النبوي، وقدمت غناءً لقصائد طويلة مملوءة بالروحانيات والعاطفة الدينية، كما تغَّنت في الحنين والحزن والذات الباكية والرومانسية المتألمة.

وغنَّت أم كلثوم رثاءً حزيناً عند رحيل جمال عبد الناصر كتبه الشاعر نزار قباني «عندي خطاب عاجل إليك - من أرض مصر الطيبة - من الملايين التي تيَّمها هواك - من الملايين التي تريد أن تراك - لكنني لا أجد الكلام».

بعد هزيمة 1967، لبست أم كلثوم ثياب الحداد، لكن أزمتها الصحية والنفسية حدثت في السنوات الثلاث الأولى لتولي السادات رئاسة مصر، وبروز دور السيدة جيهان السادات، التي أخذت تبحث عن بديل رسمي منافس لأم كلثوم (غيرة أو كيداً أو ثأراً)، ويبدو أن «القشة التي قصمت ظهر البعير» جاءت حينما ذهبت أم كلثوم، ضمن وفد من الفنانين المصريين الكبار، إلى منزل الرئيس السادات بالجيزة، لتهنئته بالفوز برئاسة الجمهورية، ونادته أم كلثوم قائلة، أثناء هذه الزيارة: «مبروك يا أبو الأنوار»، وهي تسميه تعبر عن التدليل الشعبي المصري لاسم أنور. وكان السادات على صلة دائمة بأم كلثوم، يزورها ويحضر مجالسها وحفلاتها الغنائية في عقود سابقة، وظلت أم كلثوم، تنظر إلى السادات، على أنه «اليوزباشي» الذي قدَّم لها التحية العسكرية على باب الطائرة، وهو يودّعها أثناء سفرها إلى أمريكا، في منتصف الخمسينات، حينما انحبس صوتها بسبب مرض في الحلق، وتطوعت البحرية الأمريكية في مركزها الطبي، في ولادية ماريلاند، بإجراء عملية جراحية لها.

وحينما سمعت السيدة جيهان السادات أم كلثوم وهي تخاطب الرئيس ب «أبو الأنوار» أو «أبو الأناور»، وكانت جيهان حاضرة في اللقاء، انتفضت بغضب بالغ، وقالت بقسوة وعنف، موجهة إصبعها إلى أم كلثوم: «إلزمي حدودك، إنك تتحدثين إلى السيد الرئيس»، وغادرت أم كلثوم الجلسة غاضبة، واعتكفت بعد ذلك شهوراً عدة.

كانت هذه الرواية متداولة في أوساط النخب الأدبية والدبلوماسية في القاهرة، وتردد حينها أن جيهان السادات وجدت البديل المنافس؛ حيث وقع اختيارها على المدعوة (إفراج ابنة المقرئ الشيخ محمود الحصري)، والتي قرأت القرآن في حفل شاي نسائي، أقامته جيهان السادات في منزلها، تكريماً لفرح ديبا، زوجة شاه إيران، في ذلك الوقت، وقال السادات: إن صوت «إفراج» رائع، وإنها موهوبة «وبرائحة بلدنا وترابها» ولمع اسمها بعد وفاة أم كلثوم، وتغير اسمها إلى ياسمين الخيام واعتزلت الغناء عام 1990.

طوال عام 1975 تصدرت أخبار مرض أم كلثوم، الصحف والإذاعات، وفي يوم وفاتها في فبراير 1975، وقف مجلس الشعب المصري دقيقة حداد على روحها، وبعث الأمير عبد الله الفيصل عدة لترات من ماء زمزم «كواجب أخير».

تلقيت قبل أيام هدية ثقافية ومعرفية جميلة، مجموعة كتب من إصدارات مركز أبوظبي للغة العربية، وكان من بينها كتاب مميز في موضوعه، وجديد في مقاربته للشعر والغناء عند أم كلثوم، لمؤلفه الدكتور الأكاديمي أحمد يوسف علي، بعنوان «أم كلثوم» شمل نصوصاً مغناة ومموسقة لشعراء عرب أفذاذ. وكشف لنا المؤلف في هذا الكتاب شيفرة «شاعرية» أم كلثوم، وما ملكته هذه السيدة العظيمة من ذائقة عالية، في الأداء والاختيار، وإعادة تركيب النصوص الشعرية.

يقول المؤلف: إنها كانت تختار بنفسها أبياتاً من قصائد طويلة كتبها شعراء قبل قرون، أو عقود، قصائد لم تكتب للغناء أو النشيد، وكانت تعدّل في بعض كلمات هذه القصائد، وقد طرح الكتاب العديد من التساؤلات التي تغيب عن عشّاق غناء أم كلثوم، ومن بينها: ما هي قدرات أم كلثوم اللغوية والفنية والفكرية في عملية الانتقاء والتعديل؟ ولماذا استدعت من الشاعر أحمد شوقي تسعة نصوص شعرية من عيون شعره مثل «نهج البردة»، و«سلوا قلبي» أكثر مما استدعت أشعاراً من آخرين.

وقد أرَّخ المؤلف بتفاصيل كثيرة لنصوص وتواريخ وسمات قصائد غنَّتها، وما صاحبها، في ذلك الوقت، من تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية. وقدم قراءة عميقة للشاعرية واللغوية والذائقة الفذة والجميلة في أم كلثوم، غناءً واختياراً للكلمات والمعاني واللحن.

ولعل اختيار مركز اللغة العربية في أبوظبي لنشر هذا الكتاب الثقافي والفني واللغوي والنص الشعري، هو اختيار حصيف، يستحق التقدير، لتعزيزه جماليات «لغة الضاد» وما تكنزه من طاقات إبداعية.

ما زلت أذكر منديلها الحريري، ونظارتها السوداء الشهيرة، و«البروش» على صدر فستانها المحتشم، وكيف مشيت مع عدد من الدبلوماسيين العرب أميالاً عدة في جنازتها التي خرجت من مسجد عمر مكرم، وسارت بصعوبة بالغة، عبر شوارع وسط مدينة القاهرة باتجاه مسجد الإمام الحسين تحيط بها الملايين من أبناء الشعب المصري.

فقدت مصر هرمها الرابع، وتغير جو القاهرة ومفاهيمها، وتغيرت رائحة الشاي بالنعناع، وطعم عصير الليمون، وتوقف الغناء الرفيع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3hkxstfx

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"