عادي

الجشع والمقامرة

22:27 مساء
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

في خطابه الوداعي، في يناير 1961، وقبل اعتزاله الرئاسة، ألقى دُوايت ايزنهاور خطاباً «حذَّر فيه من ظهور (مجمَّع عسكري - صناعي)، واكتسابه نفوذاً كبيراً، سيؤدي إلى كارثة، نتيجة لسلطة موضوعة في غير مكانها، وسُيعّرض العملية الديمقراطية للخطر»، كما حذر أيضاً من «احتمال صعود نخبة علمية تكنولوجية ستتمكن من جعل السياسة العامة أسيرة لقبضتها».

بلغ ايزنهاور (1890- 1969) قمة السلطة في حياته، وكان القائد الأعلى لقوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، ورئيساً ذا شعبية كبيرة لفترتين رئاسيتين، وعاد بعد الحرب بطلاً شعبياً، وتولى رئاسة جامعة كولومبيا، وانتخب رئيساً في عام 1952.

يبدو أن نبوءته التحذيرية تحققت في العقود التالية، وبخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين «وتحول العالم إلى مجتمع يسوده الخوف والكراهية، بدلاً من الثقة والاحترام المتبادلين»، حسب نبوءته.

دفع هذا «المجتمع العسكري الصناعي» أمريكا في العقود الأخيرة إلى القيام بمغامرات وتدخلات عسكرية، تجاوزت العشرات، ولأسباب واهية، في معظمها اقتصادية لا علاقة لها بالديمقراطية ونشرها، ولا دفاعاً عن قضايا عادلة، وإنما تصب في نهاية المطاف في خدمة مجتمع السلاح والمال والصناعة والسوق، ومن خلال شبكة علاقات سياسية واقتصادية معقدة.

وها هي أوروبا تتحول، في ظل الحرب في أوكرانيا، إلى ترس في ماكينة هذه الحرب وعبثيتها، وخسرت أوروبا، حينما نزحت معظم اقتصاداتها إلى أمريكا، ورضخت لعقوبات فرضتها أمريكا على روسيا، وتورطت في حرب بالسلاح شرسة، وحرب اقتصادية شاملة تسعى لتدمير اقتصاد الخصم، وتجويع شعبه، وتأليبه على قياداته.

إن استمرار هذه الحرب الساخنة جداً، والتي لا يلوح أمل في وقفها أو النزوع إلى تسويتها بالدبلوماسية، هو استسلام لقانون الجشع، وعدم الاكتراث بألعاب المقامرة الخطرة، وانكشاف فاضح لمنظومة عالمية، تتحكم في حياة الناس ومسار الشعوب.

عشرات المليارات أُنفقت لاشتعال هذه الحرب، ولخوض حرب لصالح جشع «مجمَّع» مهيمن، في وقت تحتاج فيه البشرية إلى معالجات ومقاربات، لتحسين حياة الناس والبيئة، وبناء سلام دائم وتعايش مُجدٍ ونافع.

نسمع خطابات في السياسة الدولية، مجردة من أي قوة أخلاقية، ومملوءة بالكلمات الطنانة؛ حيث تحول مفهوم «الصالح العام» من شأن سياسي قيمي والتزام ومسؤولية، إلى مجرد عملية تجارية ربحية وخضوع لآليات السوق.

من السذاجة تقييم مجريات هذه الحرب، من خلال مجريات الأوضاع الميدانية الجارية؛ بل عبر مقاربتها من خلال الرؤى الاستراتيجية لطرفيها الحقيقيين، وهما روسيا وأمريكا.

نتذكر كيف كان سياق السياسة الدولية في مراحل مختلفة من التاريخ، حينما احتلت بريطانيا العظمى هذا الدور الجشع في الهيمنة، معظم فترات القرن التاسع عشر، فكانت القوة العليا في ما يتعلق بالاقتصاد والمال العالميين. وأجازت لها هذه السطوة السيطرة على المحيطات وداخل أوروبا، والحيلولة دون ظهور قوة منفردة مهيمنة على العالم خارج أوروبا.

ونتذكر أيضاً حقبة الهيمنة الهولندية في القرن السابع عشر، وكيف شكلت نظاماً اقتصادياً عالمياً، وكذلك حقبة الهيمنة الفرنسية في معظم فترات القرن الثامن عشر، حينما شنت حروبها ضد أغلب الملكيات الأوروبية، وانتهت بمعاهدة «واترلو» في عام 1815، وأجهضت المحاولة الفرنسية لقيادة التاريخ.

حينما يتحول الجشع إلى حالة جنون، لا تخضع الحروب لأي معايير أخلاقية، ويأكل وقودها الأنفس والأحلام، وتنهار حتى أسواق المال بشكل مفاجئ.

في مارس الماضي، طلب الرئيس الأمريكي بايدن، المشورة من وارن بافيت، أحد أغنى رجال الأرض، بشأن الأزمة المصرفية، وانهيار بعض البنوك، وقال بافيت في مشورته: «من الجنون تشكيل لجنة لمراجعة كل عملية استحواذ».

في عام 2008، وفي ذروة الأزمة المالية والرهونات العقارية، وانهيار بنك «ليمان براذرز»، اجتمع بافيت العجوز، مع رؤساء تنفيذيين للبنوك الكبرى، مثل «مورغان ستانلي» و«جيه بي مورغان» و«غولدمان ساكس». وتمخض الاجتماع عن قيام أمريكا بضخ 250 مليار دولار في النظام المصرفي الأمريكي.

في رواية «المحاكمة» التي كتبها الأديب التشيكي فرانز كافكا يتحدث عن شخص اسمه جوزيف، كان يرأس أحد البنوك الكبيرة، وفوجئ في الصباح أن رجلين يقفان أمام بابه، ويخبرانه بأنه مطلوب للمحكمة.

وتدور أحداث الرواية، من غير أن يعرف هذا المسكين، ما هي جريمته، ولا يدري كيف سيدافع عن نفسه، وبعد أن تخلَّى عنه محاميه، بقي وحيداً، في مواجهة منظومة مالية وقضائية وبوليسية قوية، تسير وفق تراتبية وروتين معين، إلى أن يصاب هذا المسكين باليأس والإحباط.

قيل ونشرته صحف أمريكية «إن البليونير وارين بافيت استاء يوماً، حينما علم أن سكرتيرته، تدفع ضرائب بنسبة أعلى منه».

وتحضرني، وأنا أقرأ «استياء رمز هذا المجمع المالي الصناعي العسكري» تجاه عدم عدالة النظام الضريبي، قصة الأعرابي الذي شكا أمره إلى بعيره، وهو يعايره، وسأله: «يا بعير لماذا بولك أعوج؟»، فيرد البعير قائلاً: «يا سيدي.. هل ترى فيَّ شيء عَدِلْ؟!!!».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4bb5adbc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"