رمضان.. قصيدة الروح

03:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي

لا يختلف الشعر في شهر رمضان عن غيره من الشهور، إلا بما تفيض به الروح عليه من تجلياتها، فتطبعه بتلك الروحانية التي تعرج بالكلمة إلى مراتب السمو والجمال والكمال، وتطير بحمامة الشدو إلى سماء التجلي، وتلتحم بالمشاعر مع تلك النفحات الإيمانية التي تضفي على النص روحاً تناجي القلب فينهض وينبض، وتستسقي الحرف فيفيض ويتدفق، وتقف أمام لوحة الخشوع تتأمل هذا الضيف الغالي، وهو يأخذ القلوب بسحره ويجمع الأرواح بكرمه؛ تلك اللوحة التي تبدو فيها صورة الإخاء والسخاء والوفاء جلية، تُملي على الشاعر القول، وترسم له طريق الضوء الذي يمر على واحات من الورد والعطر والجمال، وقد أحسن قولاً الشاعر حسن، بفتح الباب حين تحدث عن الشعر في هذا الشهر وربطه بالروح بقوله: «إن العلاقة وثيقة بين شهر الصيام وبين الشعر، فكلاهما يعبر عن رغبة وجدانية عميقة في نفس الإنسان السوي، وهي الخروج من شرنقة الماديات إلى العالم الأسمى، وهو عالم الروح.. فالصيام تشف فيه النفس المؤمنة، وتتخلى عن رغباتها الحسية، والشعر تسامٍ بالروح إلى ملكوت التأملات الصافية، والتغلب على الجانب المظلم».
المتتبع للكثير من أدبيات هذا الشهر وما قيل فيه، يجد أن معظمها مال إلى السردية المباشرة الخالية من اللمحات الفنية واللغة المتشظية، والانزياحات التي تبحث عن الدهشة وفتنة اللغة وماء القصيدة، وذلك من خلال غرض المديح وذكر فضائل الصيام ومحاسن الأخلاق، والحث على القيم الإنسانية النبيلة واستقبال رمضان أو توديعه، وما من شك في أن الإنسانية بحاجة إلى هذا الصفاء الروحي، لتخرج من هذا الفضاء المكتنز بالوجع، والمكتظ بالهموم، والملوث بكثير من الظواهر التي نافت الفطرة، ومحت وجه البساطة، وجنت على البراءة، وعقّدت الرؤية إلى الحياة، وشوهت صورتها المنشودة، وأوجد هذا الوضع هوة سحيقة بين الإنسان وإنسانيته، لكن للشعر أدواته المختلفة القادرة على رسم صورة مغايرة للقول السائد، تجعل من روحانية الشهر دماً جديداً يجري في أوردة المشاعر، فتنتفض وتستنفر كل طاقاتها من أجل الاحتفاء بهذه اللحظة الفريدة، والتعبير عنها بلغة شفيفة عذبة، تبتعد عن قشور الكلمة لتغوص في المعنى، وتستخرج من بحر الشعر لآلئ فريدة تتجلى فيها الصورة وتلمع فيها المفردة، ويشع منها الخيال السابح في ملكوت التأويل.
وربما أثر انشغال الروح بطقوس شهر رمضان على مستوى الكتابة الشعرية لدى الكثير من الشعراء، فهذا الضيف مثلما يفد سريعاً بخيره وبشائره، يرحل كذلك سريعاً، وينشغل الجميع في تأمل خيراته فتقف الحروف عاجزة عن التعبير إلا من كلام شفيف تسبقه التلقائية، فيأتي بسيطاً في الطرح واللغة، ولا يتعدى كونه تعبيراً عن حالة شعورية تملّكتها روح إيمانية تتعبد في محراب هذه الأيام المنشغلة بالطاعة والتقرب إلى الخالق، وتركيز بوصلة الفكر إلى هذا الطقس الروحاني، دون التركيز على سمو التعبير واختيار بديع الحروف، من خلال كتابة نص فارق شاهق، يفيض بماء القصيدة ورائحة الشعر الجاذبة.
إن الشعر العربي كريم جداً مع الشاعر الذي يكرمه ويعتني بلغته، ويهذب بها حرفه ويلبس القصيدة ثياب البهاء التي لا تبلى ولا تتغير مع الزمن، أما ما عدى ذلك من كتابات، فهي للاستهلاك الآني ولا تكاد تذكر إلا مع مناسبتها، والشعر الخالد وإن كتب عن المناسبة، إلا أنه لا يجعلها تموت بموت وقتها، لتبقى قصيدة صالحة لكل زمان ومكان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"