الدول الفاشلة والكيانات الافتراضية

02:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

انتشرت منذ بداية نهاية الألفية الماضية وبداية الألفية الجديدة ظاهرة الدول الفاشلة، بشكل غير مسبوق بحيث باتت تهدد الأمن والسلم الدوليين، فمن إفريقيا إلى آسيا تنتشر مناطق نزاع عديدة، وتعجز دول كثيرة عن بسط سيادتها على كامل ترابها لتفسح بذلك المجال واسعاً أمام زعماء الجريمة المنظمة من أجل بسط نفوذهم وترويع السكان الآمنين. وإذا كان العالم قد تعوّد على تفشي هذه الظاهرة في الدول الفقيرة في إفريقيا التي لا تملك القدرة الكافية من أجل التحكم في جغرافيتها الواسعة، فإن الظاهرة بدأت تأخذ أبعاداً خطرة ومأساوية مع بداية تحوّل دول عريقة إلى دول تتجه بوتيرة متسارعة نحو الفشل المؤسساتي والدولوي مثل بلجيكا، التي جعل منها الاستقطاب الداخلي الحاد ما بين الإثنيتين الأساسيتين المتصارعتين إلى منطقة ملاذ آمن لكل المتطرفين في أوروبا؛ ومثل المكسيك التي تعجز فيها قوات الأمن عن وقف معارك المجموعات الإجرامية التي تقوم بعمليات تصفية جسدية واسعة ضد كل من يجرؤ على الوقوف في وجهها.
ودفعت هذه الوضعية الجيوسياسية الجديدة المختصين إلى تقسيم الدول بحسب بعدها أو قربها من حالة الفشل، وأفضت هذه التصنيفات إلى وضع الدول العربية برمتها إما إلى دول فاشلة كما هو الشأن بالنسبة للعراق وليبيا وسوريا واليمن، أو إلى دول في طريقها نحو الفشل نظراً للتحديات والأخطار الأمنية الكثيرة التي تحدق بها نتيجة للصراعات الإقليمية التي تجعلها منكشفة أمنياً ، إضافة إلى الأخطار الاقتصادية التي تواجهها الدول العربية بسبب الأوضاع الجديدة التي باتت تفرضها السياسات الدولية المرتبطة بمسار العولمة من جهة، والصعوبات الكبيرة التي تواجهها من أجل تنويع اقتصاداتها وتقليل اعتمادها على عوائد تصدير الموارد الطبيعية وفي مقدمها النفط من جهة أخرى.

ويذهب المحللون إلى أن العالم بدأ يعيش على وقع التداعيات المرتبطة بانتشار هذه الظاهرة الجديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت الحروب التقليدية بين الدول تتراجع بشكل كبير، وبدأت تنتشر في مقابل ذلك النزاعات الداخلية والحروب الأهلية؛ كما أسهم تفكك الاتحاد السوفييتي في تسارع تفكك الكثير من الدول نتيجة لدخولها في مسار معقد من التحولات التي أدت إلى تراجع سلطة الدولة المركزية، وإلى ظهور الهويات الجزئية التي تسعى إلى إعادة تشكيل جغرافية الدول الوطنية التي تأسست مجملها في النصف الأول من القرن الماضي. ويمكن القول إن هذا التحوّل المأساوي الذي بدأت تعايشه الكثير من الدول الوطنية، والذي أصبح ينعت في الكثير من الكتابات السياسية بظاهرة الصوملة، ناجم في قسم كبير منه عن هشاشة مؤسسات الدولة المركزية، ومتصل في الآن نفسه بضعف النخب السياسية التي عجزت عن بلورة مشروع سياسي ومجتمعي جامع لكل مكونات المجتمع بكل أطيافه العرقية والمذهبية.

وعليه فإن مشكلة الدول الفاشلة لا تتعلق فقط بالهوية السياسية المعترف بها دولياً وإقليمياً، وإنما ترتبط بشكل وثيق بمسألة السلطة في أبعادها المتعددة، ويشير جورج بلانديي في هذا السياق، إلى أنه لا وجود لمجتمع بدون سلطة سياسية، ولا وجود لسلطة بدون تراتبية ومن دون علاقات غير متساوية مؤسسة على العلاقة ما بين الأفراد والمجموعات الاجتماعية. ومن ثمة فإن النقاش الاجتماعي والسياسي لا يتمحور إذاً، حول تأسيس العلاقات الاجتماعية بمعزل عن السلطة، ولكنه يتصل بنقاش يتمحور في مجمله حول الشروط المتعلقة بتحديد ومأسسة السلطة. وإذا كانت السلطة تستند حسب ماكس فيبر على 3 مشروعيات: المشروعية التقليدية، المشروعية الكاريزماتيكية، والمشروعية العقلانية - القانونية، فإن مشكلة السلطة في الدول الفاشلة تكمن في عدم قدرتها على الانتقال من المشروعيتين التقليدية والكاريزماتيكية نحو المشروعية العقلانية والقانونية التي تسهر على ديمومتها واستمراريتها دولة المؤسسات المنتخبة.
ولعل الخلل الأكبر الذي تتميز به الدولة الفاشلة يرتبط، بحسب ما يذهب إليه معظم المشتغلين في الحقل السياسي، ارتباطاً وثيقاً بطبيعة الوظائف الأساسية للدولة، حيث يؤكد أصحاب النظريات السياسية على أن الدولة الحديثة تمتلك وظيفتين رئيسيتين: تتعلق الأولى بإشاعة السلم في العلاقات السياسية، من منطلق أن الأشخاص زائلون والدولة باقية، الأمر الذي يجعل الوصول إلى السلطة وممارستها قائماً على قواعد دستورية ملزمة لكل الأطراف. وتعتمد الوظيفة الثانية على إشاعة السلم في العلاقات الاجتماعية، لأنه من خلال احتكار الدولة لسلطة الإكراه والإلزام، يجد الأفراد أنفسهم منقادين بشكل تدريجي إلى تقبّل فكرة عدم اللجوء إلى العنف الجسدي، ويُترجم هذا المسار من خلال وجود آلية تتعلق بعملية الإكراه الذاتي المتساوقة مع سيرورة الحضارة وبنية المعايير والقيم المشتركة داخل كل مجتمع.

ويمكن القول في سياق متصل إن النزوع الاستبدادي للسلطة في الدول الفاشلة، غالباً ما يكون أحد الأسباب الرئيسية في عدم انخراط المجتمع من أجل الدفاع عن كيان دولته.
كما أن تعدد أشكال الممارسة السياسية يفترض وجود تعددية وحركية واضحة داخل النخب السياسية، حتى لا يتكلس المشهد السياسي ويؤدي إلى عجز المجتمع عن إفراز نخب جديدة قادرة على مواجهة تحديات جديدة ومغايرة.

وصفوة القول إن وصول الدول الوطنية إلى مرحلة الفشل السلطوي والمؤسساتي، يفتح الباب واسعاً أمام ظهور كيانات سرطانية يمكن الاصطلاح عليها بالدول الافتراضية التي تتشكل من المجموعات الإجرامية والمتطرفة وأمراء الحرب، الذين يحاولون ملء الفراغ الناجم عن انهيار مؤسسات الدولة. بيد أن العوامل الداخلية التي تحدثنا عنها وبالرغم من أهميتها الكبيرة بالنسبة لاستقرار الدول، فإنها لا تلغي في زعمنا أهمية الدور الذي تلعبه القوى الكبرى في تحويل دول بعينها إلى دول فاشلة، إذ لا أحد يمكنه أن ينكر الدور الخطر والمشبوه الذي لعبه الاستعمار الأمريكي في تحوّل العراق إلى دولة فاشلة ومنكشفة أمنياً، بل ومستباحة من طرف كل القوى الإقليمية وفي مقدمها تركيا وإيران.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"