السياسة والتنوع البشري

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

رغم أنف المدنية والحداثة والتكنولوجيا والأفكار التنويرية والشعارات الثورية والثورات المدنية والعسكرية، ورغم أنف الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية والشيوعية، وكل ما ابتكر الإنسان من نظريات شمولية وقطرية، إلا أنه لا يزال، وفي كل بقاع الأرض، من يعتز بأصله، وعرقه، وقبيلته، وعائلته، ودينه، ومذهبه، وطريقته، ويذهب البعض عميقاً فيرسم شجرة عائلته، ويكتشف أنها تعود إلى الملك الفلاني أو السيد الفلاني أو البطل الفلاني أو الصحابي الفلاني، بل ويكتشف أحياناً أن أصله ليس من الأرض التي يقيم فيها ويحمل جنسيتها ويهتف باسمها، وربما ينتمي لأرض بعيدة، قد تتحدث لغته الحالية، أو لغة أجنبية، فيزهو ربما ويفتخر ويصاب بالعظمة، ويضرب بالحائط التاريخ والجغرافيا، فيعود لهنيهة، يتقوقع على ذاته، إلا أنه لا يلبث أن يعيش اللحظة الراهنة. وقبوله باللحظة لا يعني التآمر على ذاته أو التنكّر لأصله، إنما يرضى بحركة التاريخ، إلا أن البعض، لا يقبل بحركة التاريخ فيصطدم بثنائية الحاضر والماضي، وهذا ليس حديثنا.

   الباحثون يقومون بعملهم بموضوعية فيكتشفون ما سبق من أصول الجماعات والمجتمعات، والمؤرخون كذلك، يفعلون ذلك ويسجلونه في بحوثهم وكتبهم ودراساتهم وينشرونه، ثم يمارسون حياتهم الطبيعية بشكل سلس غير معقّد. والعلماء الذين يقومون بدراسة أصل الإنسان وتجمعاته البشرية وجذوره، أي الأنثروبولوجي، أيضاً يقومون بأعمالهم ثم يستمرون في حياتهم، وكثير من السياسيين يطلعون على نتائج دراسات الباحثين والمؤرخين ويواصلون حياتهم بشكل طبيعي ويمضون في سياساتهم التقليدية في تعاملهم مع الشعوب، فيواجهون بين فترة وأخرى مصاعب مجتمعية نتيجة ظهور جماعات تعتز بثقافاتها وجذورها وأعراقها، فإما يصطدم السياسيون بهؤلاء، وإما يتفهمون حركتهم ويستوعبونهم، وذلك يعود إلى عمق ثقافتهم وأساليب إدارتهم للأمور، فمن يصطدم يكون قد هيأ الأرض لصراعات طويلة المدى، ومن يتفهّم يكون قد اختصر الأزمة، وحقق الانسجام المجتمعي.

  في المجتمعات المتقدمة، وبعد مرورها بصراعات طويلة، وأحياناً بحروب أهلية دموية وشاقة، توصلت إلى أن الاعتراف بالاختلاف هو أقصر الطرق للوئام والسلام المجتمعي، فوضعت قوانينها لتعزز هذا التوجه وتؤصل لحياة فسيفسائية، يحترم فيها الجميع الجميع، ويقبل فيها الجميع بالجميع، ومن يخالف ذلك، يكون القانون هو الحكم.

   نحن في العالم العربي، شأننا شأن معظم أقطار العالم والمجتمعات البشرية، لدينا تنوّع في الأديان والأعراق والثقافات والأعراف والعادات والتقاليد، ولا تزال مزدهرة حتى اليوم، وقد يعود هذا التنوع إلى الحروب والحملات والفتوحات والهجرات، وتشكلت مجتمعات داخل المجتمع الواحد، وثقافات داخل الثقافة الواحدة، ومذاهب وطرق داخل الدين الواحد.

 واستطراداً نقول إن الأديان الثلاثة، لم تستطع امتصاص هذا التنوع، في المنطقة العربية على الأقل، حيث تظهر الفوارق في أية لحظة، عند حدوث أي مشكلة طرفاها من عرقين مختلفين أو مذهبين مختلفين أو حتى قوميتين مختلفتين، ولن نناقش الأسباب التي أبقت على هذه النار التي تحت الرماد، ولكن يمكن القول في المجمل إن معظم الأنظمة السياسية المتعاقبة لم تعمل بشكل جاد على حل هذه المعضلة، ونستثني من هذا، الأنظمة في دول الخليج العربي التي تحظى بتشابه في الديانة والأصول والعرق، فظلت مستقرة حتى يومنا هذا، أما الأنظمة الأخرى التي انشغلت في الانقلابات والصراعات على السلطة، ونسيت أهم عنصر للاستقرار المجتمعي، وهو تحقيق الانسجام الثقافي والجذري بين المكوّنات المجتمعية، فحصدت ما حصدت.

  أعتقد أن أهم ما يمكن أن يقوم به السياسي كي يسوس شعبه بسلاسة وسلام، هو التعرف إلى مكوناته وأفكاره ومعتقداته وجذوره، وبناءً عليه يمكنه وضع سياساته الثقافية والسياسية ومنهجه التعليمي، ويحوّل هذا الاختلاف إلى ميزة ثقافية واجتماعية. هكذا تفعل المجتمعات المتقدمة اليوم، وتقيم أياماً للتنوع المجتمعي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8jhhcy

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"