الجغرافيا السياسية تحاصر تجارة السلع

22:37 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

يقول الاقتصادي الهنغاري/الأمريكي زولتان بوزار «Zoltan Pozsar»، الذي شغل عدة مناصب إدارية واستشارية في البيت الأبيض وفي وزارة الخزانة الأمريكية وفي مؤسسات مالية عالمية، آخرها رئيساً لاستراتيجية أسعار الفائدة قصيرة الأجل لبنك كريدي سويس السويسري الذي أنقذه، بالاستحواذ مؤخراً، بنك «UBS Group AG» الاستثماري السويسري: إن الجغرافيا السياسية باتت تحاصر التجارة في السلع، والتجارة في الخدمات، وتحاصر الاستثمار. فتتبدى انعكاساتها، إرباكات في سلاسل التوريد، وسلاسل القيمة النهائية للمنتَج، وتصدير وتقديم أولوية التسلح لدى مجموعة السبع على بقية الأولويات الأخرى، ومضاعفة الميزانيات العسكرية، في دورة لم يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

والحال، إن هذه الأزمة ليست مثل أي شيء آخر شهدناه منذ أن فكّ الرئيس نيكسون ارتباط الدولار بالذهب في عام 1971، ووضع نهاية عصر النقود القائمة على السلع الأساسية. لذا، فإنه عندما تنتهي هذه الأزمة (والحرب)، من المتوقع على نطاق واسع أن يكون الدولار الأمريكي أضعف بكثير، والرنمينبي الصيني أقوى بكثير، مدعوماً بسلّة من السلع. فإذا كان بوسع البنوك المركزية طباعة العملات الورقية «Fiat money» بقدر ما تريد، كما يفعل مجلس الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي، فإنه لا يمكنها طباعة الطاقة والغذاء والسلع.

اليوم ليس كالأمس حين كانت الأمور واضحة لقراءة مؤشرات أداء مختلف مواد وعناصر العلاقات الاقتصادية الدولية. فأنت اليوم لا تستطيع تحليل السوق فقط كما كنت تفعل في الثلاثين سنة الماضية، عندما كانت العولمة تتسارع، وعندما كانت رؤوس الأموال تتحرك بحُريّة عبر الحدود، وعندما كان انتقال الأشخاص الطبيعيين عبر الحدود، أي انتقال العمالة، سلساً.

لنأخذ سلعة النفط كمثال. ما هو حادث حقيقة، فيما خص إرباكات الجغرافيا السياسية لتجارة السلع، النفط في هذه الحالة، هو ما يشبه السباق بين نفوط «أوبك بلس» واحتياطي البترول الاستراتيجي الأمريكي، وبشكل مستقل أيضاً النفط الروسي كمتغير في المعادلة، إلى جانب الذهب أيضاً. في نوفمبر 2021، أطلق الرئيس الأمريكي جو بايدن 50 مليون برميل من النفط من احتياطي البترول الاستراتيجي. وفي مارس 2022، أطلق مليون برميل من النفط يومياً للأشهر الستة المقبلة. وفي أكتوبر 2022، أفرج أيضاً عن 15 مليون برميل. فكان أن سجل احتياطي البترول الاستراتيجي الأمريكي في نوفمبر/ديسمبر 2022، أدنى مستوى له منذ 40 عاماً، عند 400 مليون برميل.

بالمقابل تتواصل تخفيضات إنتاج «أوبك بلس» لسقف إنتاجها، مع ملاحظة توقف إطلاق أمريكا لاحتياطيها البترولي الاستراتيجي، في ذات الوقت الذي قامت فيه روسيا بإعادة توجيه صادراتها النفطية باتجاه آسيا. هنا ينتظر المراقبون ما ستفعله أمريكا، هل ستطلق المزيد من النفط أو تسارع لشراء النفط لتعويض ما استنزفته من احتياطيها الاستراتيجي؟...كان البيت الأبيض يخطط أصلاً لتجديد الاحتياطيات عندما انخفضت أسعار النفط إلى أقل من 80 دولاراً؛ الآن، هو ينتظر لحين هبوطها إلى 70 دولاراً. إنما هذه الأمنية الأمريكية لإعادة ملء الاحتياطيات عندما تنخفض الأسعار إلى 70 دولاراً، لا تتوافق مع السعر الذي تستهدفه «أوبك بلس»، وهو نحو 100 دولار للبرميل. والذي يفسره مواصلة «أوبك بلس» لسياسة تقليص المعروض في السوق، كما حدث في اجتماعها الأخير (3-4 يونيو 2023) في فيينا، حين قرر وزراء التكتل، «ضبط المستوى الإجمالي لإنتاج النفط الخام للدول الأعضاء في منظمة أوبك والدول غير الأعضاء في المنظمة، إلى 40.46 مليون برميل يومياً، اعتباراً من 1 يناير 2024 حتى 31 ديسمبر 2024»، كما جاء في بيانها الختامي (يبلغ الخفض نحو 3.66 مليون برميل يومياً). وهناك النفط الروسي الذي له دور أيضاً في إعادة تعبئة احتياطي البترول الاستراتيجي الأمريكي. فالخام الروسي يتم تداوله بخصم 30 دولاراً على نفط برنت، ما يساعد المشترين مثل الصين والهند وسواهما على تحقيق هوامش ربح كبيرة من خلال تحويل النفط الخام الروسي إلى وقود ديزل وبيعه بنحو 140 دولاراً للبرميل. أمريكا اضطرت لتغيير موقفها من مستوردي النفط الروسي حتى لو زاد عن السقف الذي حددته مجموعة الدول السبع، كما ورد على لسان وزيرة الخزانة جانيت يلين. إذ يبدو أن هذه الصفقات وفرت باباً خلفياً لإعادة ملء الاحتياطي الاستراتيجي ضمن السعر المستهدف أمريكياً (أخذاً بعين الاعتبار نسبة الحسومات الروسية). لكن ماذا – بالإضافة إلى تخفيضات «أوبك بلس» - لو لجأت روسيا إلى ربط سعر نفطها بالذهب بهدف مراكمة مزيد من احتياطيات الذهب في مخزونها؟

*خبير اقتصادي بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3kubyew4

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"