الاتحاد الأوروبي وتمدد اليمين المتطرف

05:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

راكم الاتحاد الأوروبي على امتداد أكثر من نصف قرن من الزمن، منذ تأسيسه، منجزات ومكتسبات كبيرة، جعلت منه أحد أهم وأقوى التكتلات الإقليمية في عالم اليوم، فهذا التكتل الذي شق طريقه بإصرار وثبات منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي، أسهم بشكل كبير في طي صفحات قاسية من التاريخ الأوروبي، والتي تجسدها الحروب المدمرة والصراعات الخطيرة، التي كانت كلفتها ضخمة على المستوى الإنساني والبيئي والاقتصادي داخل أوروبا وخارجها.
لا أحد كان يتوقع في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، أن أوروبا التي ظلت تعيش على إيقاع الصراعات الطاحنة على امتداد سنوات عدة، ستؤسس لتجربة واعدة على مستوى التنسيق والتكتل وتشبيك المصالح المختلفة، لتتوارى معها الضغائن والأحقاد والخلافات الضيقة، لتفتح الباب مشرعاً على مستقبل مشرق تصنعه الشعوب من خلال التنمية والممارسة الديمقراطية.
لقد استطاعت أوروبا بحنكة نخبها وإرادة قادتها السياسيين، ومواكبة مفكريها ونخبها المختلفة، أن تحوّل ظروف الحرب، والأزمات المختلفة التي عانتها لسنين، إلى فرص حقيقية، ذلك أن مرارة الظروف التي مرت بها دول القارة، وما رافق ذلك من مآس، ومعاناة كبرى كان لها الأثر الكبير في استجلاء الدروس والعبر؛ حيث اقتنع الجميع بأن متاهات الحروب لا تنتهي، وبأن الحلول التي تتمخض عنها، تظل مرحلية تؤدي حتماً إلى حروب أخرى.
إن ما حقّقه الاتحاد من منجزات كبرى على مختلف الجبهات، جعلت من أعضائه طرفاً فاعلاً ومؤثراً في الساحة الدولية، لم يكن مجرد صدفة، بل هو نتاج عمل دؤوب واستراتيجي، تنازلت عبره الدول الأعضاء عن جوانب مهمة من سيادتها لصالح الاتحاد، وتراكم طبيعي لأداء مؤسسات ديمقراطية أرساها الاتحاد طوال مساره.
جاء الاتحاد، ثمرة انفتاح سياسي واقتصادي عرفته القارة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد أسهم من جانبه في تعزيز التحوّل الديمقراطي داخل القارة؛ حيث أصبح يضم في عضويته 28 دولة، بما فيها دول كانت تدين بالولاء لموسكو خلال فترة الحرب الباردة، والتي عرفت بدورها تحولات سياسية وتطورات اقتصادية مهمة.
أسهمت هذه الإنجازات في تحصين أوروبا أمنياً وسياسياً واقتصادياً؛ حيث أكدت التجربة أهمية التكتل كمدخل ناجع لكسب رهانات داخلية وأخرى خارجية، وفي مواجهة مختلف المخاطر والتحديات العابرة للحدود.
لم تخل مسيرة الاتحاد من صعوبات وإشكالات، برزت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، كان أهمها تصويت البريطانيين في استفتاء شعبي على الانسحاب من الاتحاد، وبروز تضارب وارتباك واضحين في التعاطي مع قضايا الهجرة واللجوء من قبل الدول الأعضاء، فيما برزت مواقف متباينة أيضاً من قبل هذه الأخيرة إزاء مختلف القضايا الإقليمية والدولية الكبرى.
وبالرغم من هذه المحطات الصعبة ما زالت تواجه دول الاتحاد مجتمعة مشاكل وأزمات، إلا أن الكثير من الخبراء والباحثين يرون بأنها لن تعصف بهذا الاتحاد، فقد استطاع هذا الأخير تجاوز الإشكالات التي طرحتها الأزمة المالية الأخيرة، وغيرها من الملفات الصعبة.
وبموازاة التصاعد اللافت لليمين المتطرف وبعض الأحزاب «الشعبوية» في المشهد السياسي الأوروبي خلال السنوات الأخيرة، وما تلا ذلك من تراجع للأحزاب التقليدية، جاءت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، لتؤكد مرة أخرى، توجّه الناخب الأوروبي نحو دعم هذه القوى بصورة ملحوظة، وهو ما عكسته النتائج داخل أربع دول كبرى داخل الاتحاد ويتعلق الأمر فيها بكل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وبلجيكا، فيما تراجعت الكثير من القوى الحزبية من الوسط واليسار عن موقعها، داخل هذه المؤسسة الأوروبية التي أصبحت تملك صلاحيات وازنة فيما يتعلق بالقرارات والتشريعات والسياسات التي تهم 28 دولة، كما أنه المسؤول عن انتخاب رئيس المفوضية الأوروبية، والمعني بالموافقة على الميزانية العامة للاتحاد.
تجاوزت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات الخمسين في المئة، بقاعدة انتخابية تناهز 427 مليون شخص، وهي نسبة مهمة مقارنة مع مثيلاتها المسجلة خلال العقدين الأخيرين، وبالرغم من حصول اليمين المتطرف على المرتبة الثالثة ب 117 مقعداً من مجموع 751 مقعداً، بعد كل من حزب الشعب الأوروبي المحافظ، ب 178 مقعداً، وتحالف الاشتراكيين والديمقراطيين ب 152 مقعداً، فإن الكثير من الباحثين والمراقبين لا يخفون تخوفاتهم إزاء مستقبل الاتحاد الأوروبي، بالنظر إلى توجّهاته المشكّكة في أهمية الاتحاد، وبالنظر إلى مواقفه إزاء قضايا الهجرة.
لا شك أن الحضور الوازن للقوى اليمينية المتطرفة داخل البرلمان الأوروبي، سيخل بالتوازن الذي عم هذا الجهاز الأوروبي المهم على امتداد عقود عدة، وسيسمح لهذه القوى بطرح مواقفها وتوجهاتها داخل هذه المؤسسة الأوروبية، بصورة أكثر قوة من السابق.
وبالرغم من التوقعات بإمكانية تشكيل تحالف بين القوى المؤيدة للاتحاد، من حزب الشعب الأوروبي وكتلة الاشتراكيين والديمقراطيين والليبراليين والخضر، لقطع الطريق على أي تحركات قد يقودها اليمين المتطرف إزاء عدد من القضايا، والالتزامات الأوروبية إزاء محيطها، إلا أن التوجهات العامة للناخب الأوروبي في السنوات الأخيرة، والمؤيدة في مجملها لهذه التيارات، يبرز قدراً من الاستياء إزاء القوى التقليدية التي تراجع حضورها داخل المشهد السياسي الأوروبي بشكل عام، ما يسائل هذه الأخيرة من حيث ضرورة بلورة برامج وسياسات أكثر مواكبة للتحولات الاجتماعية والسياسية الحاصلة في أوروبا، وأكثر التصاقاً بتطلعات مواطنيها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"