الحرية في رواية نيوليبراليـة

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

ينتمي اهتمام الفكر السياسي الحديث بالحريات إلى انشغاله بمسألة الدولة الوطنية وما ينبغي أن يكون عليه نظام السلطة فيها من مشروعية؛ إذ ليس خافياً أن مصدر شرعية أي نظام سياسي هو الثـقة به، الممحوضة له، من قِـبل المحكومين أو الرعايا أو المواطنين، والتي مَـأْتاها - هي الأخرى - من الشعـور بالفوائد الناجمة من وجود ذلك النظام وفي القلب منها ما يؤمنه من أمـن وحريـاتٍ وحقوق للمواطنين. لذلك عَـدّ مفكّرو السياسة الكبار المحدثون - وهيغـل على نحوٍ خاص - الحريةَ جوهراً للدولة الحديثة يَسِمُها ويميـزها عن الدولة التقليدية، فهي للدولة بمثابة الوَقود للآلة؛ الوقود الذي لا غنَاء عنه كي تعمل بانتظام.
ليس في الفكر السياسي الحديث، إذن، انْهـواسٌ مَرَضي بمسألة الحريـة/ الحريات، كما قد يميل إلى ذلك الظـن، وإنما اهتمام كبير يبرره ما لدى الدولة الوطنية من حاجة إلى إحلال الحرية المحل اللائق بها في نظامٍ يتحصّل بها شرعيته في وعي مواطنيه. لذلك كان مجال الحريـة في الدولة الوطنية هو المجال العام: حيث الحرية حق عام من الحقوق التي يرتّبها نظام المواطنة على سلطات الدولة وعلى القانون فيها، وكان من النادر، بالتالي، أن يقع التشديد على المجال الخاص حين الحديث في موضوع الحرية. وهكذا كانت الدولة تحمي الحريات بقوانينها؛ لأنه لا خطرَ عليها من جهة تلك الحريات - كما كان يقول سبينوزا - إنما الخطر من فقدان المجتمع لها، ولأن تنميـة الدولة وموارد القـوة فيها لا تكون إلا من طريق مواطنين يشعرون بواجباتهم تجاه دولتهم التي يُخلِصون لها الولاء، ويعترفون لها بديْـنٍ جماعي وفردي يقابلونه بأداء الواجبات وتقديم التضحيات.
يختلف الأمر، اليوم، إلى حـد بعيد. باتتِ الحرية، في خطاب الليبرالية الجديدة، تكتسب مكانة اصطناعية - لا طبيعـية - في المجتمع (أقصد في المجتمعات الغربية في عهدها النيوليبرالي الراهن)، ولكن مـن دون أن يتـمتع بها النـاس فعـلاً، بل في شروطٍ ارتفـعـت فيها مـعـدلات الرقـابة - السياسية والقانونية والإلكترونية - على الحريات إلى حدود توشِك أن تصادِرها أو، أقـلاًّ، أن تُـفـقرها من أي مضمون! وما من شك في أن أيديولوجيا الليبرالية الجديدة أحرزت نجاحات ملحوظة في تضليل الوعي الجمْعي من طريق الإيحاء بدفاعها المستميت عن الحريات، في الوقت عينه الذي تنخرط فيه في إشاعة قيم السوق (القيم الاستهلاكية) وترويجها؛ القيم عينُها التي تستعبد الناس وتستـتبعهم وتُـزْري بحرياتهم!
ما عاد الحديث عن الحريات اليوم ينصرف، إذن، إلى نطاقها المألوف: الحريات العامـة، أي تلك التي تتصل، رأساً، بعلاقات المواطَنة وبالشأن العام (وهي لا تضع نفسها في مقابل الحريات الخاصة ولا تنفيها)، وإنما بات حديثاً حصرياً في الحريات الفردية، في المقام الأول؛ هذه التي لم تعد قابلة للإدراك بوصفها إمكاناً اجتماعياً يساوِق الحريات العامة ويُجاوِرها، بل التي تُـدْرَك بما هي مقابل لتلك الحريات العامة «الحائلة» دون حريات الأفراد. ولقد ازدهر هذا المعتـقد السياسي الرث، في الحقبة الحالية من سيادة الخطاب العولمي النيوليبرالي، إلى الحد الذي أصبح فيه الفرد هو من يقرر، بمقتضى حريته الفردية المحض، إن كان يجد مصلحة خاصة في التمتع بالحريات العامـة التي تكفلها القوانين أو لا يجدها! هكذا دُقّ الإسفين بين منظومتي الحريات تينك اللتين ظلتا متلازمتين في الفكر السياسي الحديث كما في نموذج الدولة الوطنية الحديثة.
لا غرابة، إذن، في أن تقتحم مجال التداول السياسي مفردات من قبيل المجال الخاص، والفضاء الحميمي، في كل مرة يقع فيها حديثٌ عن الحريات وحقوق الإنسان؛ بل لا غرابة في أن ينتقل موقع السيطرة المفهومية في المجال التّداوُلي من مفهوم المجال العام إلى مفهوم المجال الخاص. إنه الانتقال الذي آذَنَ بالخروج من زمن الدولة الوطنية، بما هي المثال المرجعي لنظام السياسة، والدخول في زمن «ما بعد الدولة» و«ما بعد المجتمع» أو في زمن «السياديّة الكونية»؛ حيث الفرد عقيدة سياسية جديدة يُعْـتَاض بها عن المجتمع والدولة، بل حيث فرديّته وحريته وقْفان في تَحـققهما على تعطيل فعل الدولة والمجتمع على السواء وإبطال أي تدخـلٍ لهما في مجاله الخاص! تلك هي، إذن، الرواية الليبراليّة - في عهدها الجديد العولمي - عن الحرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdzn8mtu

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"