بين القمر والحضيض

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

لا يمكن النظر إلى استئناف روسيا نشاطها الفضائي المتعلق بالقمر بعد توقفه خمسين عاماً بحسبانه مجرد خطوة جديدة لبلد رائد في المضمار الفضائي، فالأمر أعقد من ذلك. سبق إطلاق روسيا، الجمعة الماضي، أول مسبار إلى القمر منذ نصف قرن عثرات كثيرة ومحاولات فاشلة على مستوى قطاع الفضاء تراكمت حتى تركت الميدان فسيحاً لتفوق وتفرد أمريكيين لم يبزغ حولهما إلا طموحات الصين والهند.

ربما كانت المعاناة الروسية الحقيقية متمثلة في اعتمادها على تقنيات فضائية من العهد السوفييتي، فضلاً عن مشكلات تمويلية وفضائح فساد تجلى أثرها في أكثر من إخفاق كاد يرسخ القناعة بأن روسيا خرجت من هذا الميدان نهائياً. واعتماداً على تاريخ المنافسة الأمريكية السوفييتية واهتمامها بالتفاصيل اللافتة، فليس من قبيل المصادفة أن تستأنف روسيا طموحها الفضائي من باب القمر في أغسطس/آب، وهو الشهر نفسه الذي قررت فيه الولايات المتحدة العام الماضي بدء مهمة «أرتيميس» للعودة إليه بعد غياب لنصف قرن أيضاً. وبعد إلغاء محاولتين بسبب مشاكل فنية في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول، نجح إطلاق الصاروخ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، واعتبر المختصون الأمريكيون ذلك حدثاً تاريخياً.

وفيما تنغمس روسيا على الأرض في النزاع مع أوكرانيا المدعومة من الولايات المتحدة ودول غربية، قرر الروس مناطحة الأمريكيين على القمر، تطويراً للمواجهة الحالية التي اتفق كثيرون على أنها تجدد أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين. وإذا كانت القناعة المعلنة في أكثر من مناسبة على لسان المسؤولين الروس، وفي مقدمتهم الرئيس فلاديمير بوتين، هي أن بلادهم تخوض على الساحة الأوكرانية حرب وجود لا مجال فيها للتراجع أو التنازل، فإن العودة الروسية إلى القمر تحديداً تترجم رغبة في التحدي في ميدان فضائي معروف بصعوباته الفنية وارتفاع كلفته.

والرسالة الروسية مفادها القدرة على المنازلة حتى في أصعب مسالك الفضاء ورفض الاستسلام لمحاولات جر روسيا إلى الحضيض عبر البوابة الأوكرانية، سواء بعقوبات اقتصادية أو استنزاف عسكري، عبر تقوية الطرف الآخر مادياً وعسكرياً.

إذاً، نحن أمام جولة جديدة من الصراع لا تنفصل، رغم أن ميدانها الفضاء، عما يجري على الأرض. ورداً على استئناف الولايات المتحدة نشاطها القمري العام الماضي باستخدام أقوى صاروخ في العالم الذي دشن مهمة «أرتيميس»، استعانت روسيا بصاروخها التاريخي «سويوز» لحمل المسبار «لونا- 25» في أول تحرك نحو القمر منذ خمسين عاماً. ولن تكتفي روسيا بالإطلاق أو انتظار بلوغ المسبار مدار القمر، فالغاية الأعقد أن تسجل انتصاراً تاريخياً إذا هبط «لونا- 25» بأمان على سطح القطب الجنوبي للقمر، فساعتها، ستكون أول قوة فضائية تفعل ذلك، وفي ذلك دلالات لا تنفصل إطلاقاً عما يجري على الأرض. والدلالة الأهم مجاهرة روسيا بالتحدي والقدرة على الإنجاز رغم أية صعوبات، والتمهيد لأي تعاون فضائي مع الصين يعوض ما منعه آخرون.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yem2b3wz

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"