عادي

في حضرة القبو.. جميعنا أطفال

23:14 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر

هل تحب القبو أم تكرهه؟ ولكن قبل ذلك، ما هو القبو؟ هو غالباً غرفة تقع أسفل المنزل، وتتعدد صور الوصول إليه، بدرج من الطابق الأرضي، أو بسلم خشبي، في البيوت الفقيرة، وهناك أماكن تمثل أقبية ما برغم أنها مفتوحة، مثل شبكات الصرف الصحي وأنفاق المترو والمخابئ أوقات الحرب، ويرتبط أيضاً بدرجة ما بأماكن الحفر لإيصال مختلف الخدمات للبشر، وأماكن الحفر الأخرى للبحث عن الآثار، وأماكن الحفر الثالثة لوضع أساسات البيوت.

بهذا المعنى فإن القبو يرتبط بالحفر بكل دلالته، وما باطن الأرض إلا قبو كبير، هو العالم السفلي إزاء العالم العلوي، هل خوفنا من أي قبو يعود إلى تصورات أجدادنا بأن الموت والنشور والبعث والحساب كلها أحداث تبدأ من القبو الأكبر- باطن الأرض؟ تلك التي لم تمنحنا إلا رهبة القبر وبراكين وزلازل مدمرة وثروات تصارعنا حولها وقصصاً حقيقية وحلمية حول الكنوز المخبأة.

ارتبط القبو في المخيال الأوروبي بالقصور الكبيرة والقلاع العتيدة للعصور الوسطى، ولكن الكثير من البيوت خاصة عندنا لم تعرف القبو، ولكن كان هناك ما يشبه القبو، وتمثل في «غرفة الكرار» التي نضع فيها أشياءنا الفائضة عن حاجتنا، أو نخزن فيها طعامنا لاستخدامه في أوقات أخرى، بعض البيوت الأخرى عرفت العلية أو السندرة، في التعريف المعجمي...العلية هي الغرفة العلوية، ولكن في الاستخدام الشعبي كل علية أو سندرة هي غرفة صغيرة للغاية كانت تعلو المطبخ أو الحمام ويتم الوصول إليها عبر سلم خشبي، ولم تكن مكاناً للطعام، وإنما خصصت للأغراض القديمة البالية التي ربما دفعنا الزمن بتقلباته إلى إعادة استخدامها مرة أخرى. أما تحت بئر السلم، وهو مكان آخر أشبه بالقبو، ولكنه من دون باب.. معتم دائماً، فشهد الكثير من القصص الغرامية بين أبناء الجيران المراهقين، وفي مرحلة أخرى استخدم التعبير «تحت بئر السلم» ليدل على التجارة اللاشرعية والمواد الصناعية المقلدة وكل ما له علاقة بالاقتصاد الرث.

مدار الخوف

القبو مدار للخوف والفزع واللاعقل، جميعنا في حضرة القبو أطفال برغم اختلاف العمر والمكانة، القبو مكان لقصص إدغار آلان بو المرعبة، ومحل لتصورات فرويد حول اللاوعي، ولم يجد دستويفسكي مكاناً يعيش فيه بطل يتحدث عن عدم إيمانه بأي شيء حتى نفسه إلا القبو.

القبو ببرودته ورطوبته ملازم دوماً للبطل الفقير الذي كان المؤلف يُمرضه بالسل، وهو أحد الأمراض التي ارتبطت تاريخياً بالرومانسية.

القبو غرفة تقع أسفل المنزل خصصت للفقراء، تعلو أحد حوائطها نافذة مسورة بقضبان فولاذية، ينظر منها الساكن إلى أحذية وأقدام المشاة في الشارع، وفي كثير من المساكن خصصت تلك الغرفة للناطور.

كل حكايات العالم الكبرى تدور في ما يشبه القبو: سقوط أليس في نفق طويل للوصول إلى عوالم عجائبية أسفل الأرض، حكايات «الدياكاميرون» تلك التي تٌروى في قصر ناء ومظلم وتحيط به أجواء وباء الطاعون كان أشبه بالقبو، حتى المريض النفسي في «جامع الفراشات»، الرواية من تأليف جون فاولز وتحولت إلى فيلم لاحقاً، ذلك الذي يخطف إحدى الفتيات ليجعلها تحبه بالقوة، لم يجد أفضل من القبو كمكان ليحتجزها فيه، وهناك الرضيع الذي بالكاد يمشي، في رواية «في المقبرة» من تأليف نيل جايمان، ويستيقظ منزعجاً على أصوات لم يفهمها، حيث كانت الجلبة ناتجة عن قتل سفاح لأبويه وأخته الكبرى فيسير مترنحاً حيناً ويحبو في أحيان أخرى حتى يصل إلى المقبرة المواجهة لمنزلهم وعندما يكتشف السفاح أن هناك فرداً آخر في الأسرة لم يقض عليه يفتش عنه خارج المنزل، وحين يقترب منه يقرر الأموات..سكان المقبرة إخفاء الطفل أسفل الأرض في أقبية المقبرة، مخترقين بذلك القانون الأزلي بعدم تعاملهم مع الأحياء.

هروب أبطال فيكتور هوغو وتشارلز ديكنز، في «البؤساء» و«قصة مدينتين» في أقبية مظلمة ومليئة بالمخلفات البشرية كان يخطف قلوبنا، ويدل على بشر يحاولون إنشاء عالم جديد، يتخلص من ثقل القبو.

غريزة

نحن نخاف من القبو غريزياً، يحكي باشلار في «جماليات المكان» عن رجل يشعل شمعة عندما ينزل إلى قبوه برغم أنه يضم مصباحاً كهربائياً، هو التصرف التلقائي، فالقبو سكن الأشباح أو الظلال والأصوات الغريبة ولا عقلانية الأعماق.

القبو مكان للتعذيب، في تلك السجون الموجودة أسفل الأرض، التي كانت السلطة في زمن المماليك وأوروبا العصور الوسطى ترسل إليها المعارضين، ليس الهدف الإيلام أو التعذيب الجسدي، وإنما الوصول لأقصى درجة من الرعب، لكي يعترف المعارض بما لم يفعله، ويحاور هواجسه ويتجرع مخاوفه حتى يتم تدجينه أو دفنه في قبوه.

قصص التخويف بالحبس في قبو لانهاية لها، وحكايات إخفاء الكنوز في أقبية أكثر، حتى في أحاديثنا اليومية خلال العراك اليومي التافه، ربما تسمع أحدهم يتوعد الآخر قائلاً: «سأخفيك تحت الأرض»، سأذيقك أشد درجات الخوف وسأنحيك من الحياة إلى الظلام وإلى العزلة القسرية التي لا نهاية لها، هو فعل أقسى من القتل، فالموت لا يحمل كل هذا الرعب.

القبو مكان لعيش، هوامش المجتمع، أو لا وعي المجتمع، بسكن هؤلاء في المقابر أو الأقبية فهم لا يختلفون كثيراً عن الأشياء التي نبعدها عن الظاهر أو الأضواء لأننا نخجل منها، ونحفظها في الظلام، الفارق الوحيد أننا ربما نعود إلى تلك الأشياء أو الحاجيات في يوم ما، أما هؤلاء فعلى مدار أجيال وأجيال لم تكن بعض المجتمعات في حاجة إليهم. وعندما كانوا يطلون برؤوسهم في مرات تاريخية نادرة فسريعاً ما يعيدهم المجتمع بألوانه المختلفة، إلى أقبيتهم ثانية، هم في الحقيقة مخلفات المجتمع الدائمة.

العمل في القبو من أقذر المهن في التاريخ، خاصة في أقبية الصرف الصحي، حيث الحواس كلها عرضة للتلف والجسد قابل بسهولة للمرض، أما بقية الأقبية والتي لا تحتوي على مخلفاتنا فهواؤها ثقيل وفق توصيف باشلار، أو تختزن لعنة الفراعنة بأساطيرها الغرائبية عند التنقيب الأثري، أو موطن لكائنات أشبه بالزومبي في عشرات الأفلام الأمريكية.

لا مرئي

كل الأقبية لا تتطهر في الشمس، من هنا أزمتها ومخاوفها ومشاكلها ولا مرئيتها وارتباطها بهواجسنا ولاوعينا والمناطق التي نخاف حتى من الاقتراب منها في أعماقنا.

القبو لدى باشلار حُلمي شاعري نظراً لغموضه وقابليته للقراءة والتأويل..هو قبو تجريدي، أما قبو جمال الغيطاني فهو صون وستر والأقبية إشارات، وهناك أقبية للمطر، وأقبية للكون عندما تبتلع الثقوب السوداء النجوم والمجرات، والأقبية حقائق عليا وأحزان لم تدرك بعد، هو قبو المتصوف والزاهد في الحياة، يقول في كتاب «سفر البنيان»: «القبو ضد الباب، لكنهما وجهان لأمر واحد، الأصل في كل منهما الخفاء..لو ظهر لانتفت صفته».

قبو الغيطاني حل لمعضلة يواجهها البطل، عندما دخل الحسن البصري الغرفة- القبو الذي حرم عليه، وجد الحصان الطائر طوق نجاته، القبو أيضاً عند صاحب «وقائع حارة الزعفراني» رحم بكل ما يحمله المعنى من تجليات، فالقبو شغف وباطن ولحظة سكينة مطلقة نسيناها منذ الولادة ولم نصل إليها طوال حياتنا.

يقول غاستون باشلار في «جماليات المكان»: «ناطحات السحاب التي لا تمتلك أقبية أمر لا يستطيع الحالم بالبيوت تصوره»، يفضل باشلار الأقبية، فناطحات السحاب التي تخلو منها، لا تحمل أي مسحة حُلمية أو شاعرية، ولكن ذلك يعود لأسباب أخرى عديدة بخلاف قبو باشلار الحالم، فناطحات السحاب مضاءة في جوانبها وأطرافها كافة..لا مجال لظل أو لأشباح تتراقص، مزودة بمصاعد لا تعرف معاناة الارتقاء أو سهولة النزول، لا توجد بها فناءات أمامية، مجرد امتداد عشبي أخضر ومواقف للسيارات، ولا تتضمن حتى فناءات متناهية في الصغر في الخلفية مثل «مساقط البيوت الشعبية»، صممها أصحابها لتكون علامة على قوة المدينة والاقتصاد ولتحقيق رفاهية السكان، ومحكمة بالمراقبة والأمن والكاميرات..لا إمكانية لجرائم أو أمراض نفسية أو أركان متوارية تدفع العين إلى التخمين، أو تثير فضولنا وتحثنا على الاكتشاف.

مقتل ناطحات السحاب في الحرائق والزلازل والطائرات المسيرة والقصف الجوي، على عكس القبو الذي يحمينا من كل هذه الكوارث، ولكن مقتله بدوره غالباً ما يكون في مياه الأمطار. ناطحات السحاب تداعب الأحلام، والقبو يشدنا إلى الأرض وهو موطن لكل الكوابيس.

مقارنة

ناطحات السحاب مظهرية والقبو «جوانية» مطلقة. ناطحات السحاب أرستقراطية مدينية والقبو فقير دائماً وريفي في معناه. ناطحات السحاب هوائية، والقبو ترابي مغبر. ناطحات السحاب تومئ إلى العلو والسمو بواقعية، والقبو وضيع وخيالي. ناطحات السحاب معنى خطي مكتمل للحياة..صعود مستمر، والقبو دائري تأويلي منفتح ولكنه جارح للروح وربما يكون المكان الأنسب للقتل أو الرحيل في صمت من دون ضجيج أو جلب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4j3m5yaz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"