غزة والخيار السنغافوري

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناجي صادق شراب
سمعت لأول مرة تعبير «غزة - سنغافورة» من الرئيس الراحل ياسر عرفات عندما عاد بالسلطة وفتح إلى القطاع في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو الذي كان من أهم إنجازاته عودة السلطة وكل القيادات إلى الأراضي الفلسطينية. لحظتها أعلن أن غزة ستتحول إلى سنغافورة الجديدة. وقبل المقارنة بما آلت إليه غزة من فقر وبطالة وحروب وحصار ومعاناة بشرية نسأل: هل تملك غزة المقومات لتصبح سنغافورة؟ ولماذا لم يفِ عرفات بوعده؟

ابتداء، غزة تملك كل المقومات والإمكانات لتصبح سنغافورة فلسطين والعرب. فرغم صغر مساحتها وموقعها الجيوسياسي البحري وتواصلها البري مع مصر الحاضنة العربية، فإنها تملك قوة بشرية لا يستهان بها بعدد سكان يقترب من المليوني نسمة، نصفهم من القوة الشبابية المتعلمة وخصوصاً في مجال العلوم الرقمية التي كان من الممكن أن تتخصص فيها غزة بالصناعة الرقمية وتصديرها مثل سنغافورة، وامتلكت قبل مجيء السلطة ثقافة مدنية منفتحة ورؤية مستقبلية، وهذه الثقافة بدأت تندثر مع قدوم السلطة وانتشار الفساد الإداري والقمع السلطوي، وانتهت مع حماس بسيطرتها الكاملة وفرض ثقافتها وأيدولوجيتها المتشددة. لقد أتيحت الفرصة لنموذج غزة - سنغافورة مع بداية السلطة وتدفق المليارات كثمن لأوسلو، والتي كان يمكن استثمارها في المجالات التنموية الصحيحة وفي بناء قاعدة اقتصادية، وخصوصاً أنه مع بدايات أوسلو كانت العلاقات مفتوحة مع مصر، من خلال معبرها طوال الأربع وعشرين ساعة، واكتمل ببناء المطار، وفي الشروع ببناء الميناء. ما افتقرت إليه غزة حتى مع السلطة، الرؤية التنموية الشاملة والمستقبلية التي كانت قادرة على جعل غزة منطقة جذب استثمارية لكثير من رجال الأعمال، وهو ما حدث فعلاً وبدأ الكل يفكر في بناء مشروعه والاستثمار في غزة.

كل هذه البدايات انتهت، ولم يعد لها وجود مع انهيار اتفاق أوسلو، وتملص إسرائيل من تطبيقه، ثم مع سياساتها العنيفة ومحاصرة القطاع.

يذكر أن سنغافورة، خضعت لقرن من الاستعمار البريطاني، وخرجت تفتقر لكل مقومات الحياة. ولم يكن أحد يتصور أن تتحول لنموذج تنموي ونهضوي يستقطب ويجذب كل الشركات الاستثمارية ورجال الأعمال، وتملك أكثر موانئ العالم ازدحاماً. والمعروف أن باني نهضة سنغافورة الحديثة هو لي كوان يو الذي تولى منصبه كأول رئيس وزراء في العام 1959، وقد ورث بلداً فقيراً يعاني البطالة وانعدام الخدمات.

فأين غزة اليوم كي تصبح سنغافورة المنطقة؟ منذ سيطرة حماس على غزة في عام 2007 تحولت إلى ثكنة عسكرية. ومنذ ذلك التاريخ شهدت غزة خمس حروب دمرت خلالها كل بنيتها الضعيفة أصلاً، وراح ضحيتها الآلاف من المدنيين، ودمرت أبراجها ومنازلها، وأصبحت تعاني حصاراً قاتلاً.

هذا الواقع لا يؤهل غزة لكي تتحول إلى نموذج سنغافوري، وقد يقول قائل وما حاجتنا لهذا الخيار ونحن محتلون ومحاصرون؟ في الواقع لقد انسحبت إسرائيل انسحاباً أحادياً من القطاع، وهذا يعنى بالمعنى الضيق أن غزة لم تعد محتلة. أما مسألة الحصار فليس تبريراً لأن تظل غزة رهينة مواقف لا تخدم القضية ولا أهلها.

المطلوب أمران، الأول تبني رؤية مدنية تنموية شاملة، وثانياً، تحقيق الاستقرار السياسي والأمني، وهذا من شأنه أن يُحوِّل غزة لمنطقة جذب استثمارية إقليمية وعالمية.

من ناحية أخرى، فإن هذا الخيار سيدعم قوة الشباب وإمكاناتهم العلمية والفكرية بما يتماشى مع الثورات التكنولوجية التي يمكن أن تكون غزة مركزاً لها. ولا شك أن قوة غزة ستكون قوة للقضية الفلسطينية، ونموذجاً سياسياً ومدنياً يبرهن على قدرة الشعب الفلسطيني في أن يقيم دولته. ويمكن لهذه الرؤية أن تمتد إلى الضفة الغربية، وهذه إحدى أهم المقاربات لإنهاء الاحتلال وقيام الدولة. ولعل هذه الرؤية تنطلق من ماهية القضية الفلسطينية وطبيعتها ومكوناتها ومحدداتها، وليس وفق رؤية تعلي المصالح الخارجية. غزة في حاجة لأن تتحول إلى مركز وعاصمة للبناء التنموي والمدني، وأن تعود إلى طبيعتها، وهذا يتوقف على الخيار الذي يحقق هذا الهدف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yeykeaaz

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"