فرنسا وانقلابات إفريقيا

00:18 صباحا
قراءة دقيقتين

على مدار نحو ثلاثمئة عام، بنت فرنسا لنفسها إمبراطورية واسعة، شملت أكثر من 20 دولة في غرب ووسط وشمال إفريقيا، فرضت خلالها نوعاً من «الهوية الثقافية»، القائمة على صبغ الهويات الخاصة للشعوب الإفريقية ب«الفرنكفونية»؛ لإدامة استعمارها وسيطرتها على تلك الشعوب في الأغلب عن طريق العنف والقمع الدموي.

وبالتالي فإن تاريخ العلاقة الفرنسية الإفريقية لم يحمل في طياته أي إيجابيات لشعوب القارة المستعمرة، التي كانت ترزح آنذاك تحت وطأة الانقسام والتخلف والولاءات القبيلة، ولم تكن قد وصلت بعد إلى مرحلة قيام الدولة المركزية، فيما لم تكترث فرنسا لمعاناة تلك الشعوب، وتعاملت معها بنوع من الفوقية أشبه بمعاملة العبيد، قبل أن تزرع في مرحلة لاحقة، حصلت فيها بعض الدول على «استقلال» شكلي، أنظمة تدين لها بالولاء الأعمى؛ لضمان المحافظة على مصالحها، ونهب خيرات القارة.

ولهذا يمكن ملاحظة ردة الفعل لدى الرأي العام الإفريقي التي رافقت الانقلابات العسكرية، والتي ظهرت في الخطاب المعادي لفرنسا، وخروج الملايين إلى الشوارع من داكار إلى باماكو، مروراً بواغادوغو ونيامي وغيرها، ومطالبتها بالرحيل، بعد أن كانت الانتقادات والاحتجاجات تقتصر في السابق على النخب والمثقفين، وسط ذهول باريس التي لم تعد قادرة على استيعاب ما يحدث في مستعمراتها السابقة.

ومن دون الغوص كثيراً في التاريخ، فإن سبعة انقلابات عسكرية في غضون ثلاث سنوات، مع تزايد احتمال انهيار بقية أنظمة المستعمرات السابقة كأحجار «الدومينو» الواحدة تلو الآخر، تسبب بصدمة حقيقية لفرنسا التي لم تجد ما تواجه به هذه الانتفاضة الإفريقية سوى العودة إلى أساليب الاستعمار القديم؛ إذ يبدو أن فرنسا لم تدرك بعد أن إفريقيا قد تغيّرت، وأن الأجيال الحالية وأغلبها من الشباب، بحسب التقارير، نضجت وأصبحت مثقفة، وتمتلك من الوعي والإرادة، ما يدفعها لإطاحة أنظمة «الدمى»، والحصول على الاستقلال والسيادة الحقيقيين. في حين ما تزال فرنسا غارقة في أوهامها، وتعتقد أنها تستطيع تقرير ما هو شرعي، وما هو غير شرعي، وتهدد بالتدخل العسكري، للمحافظة على مصالحها الاقتصادية والسياسية.

مشكلة فرنسا في إفريقيا، أنها نامت على ولاء أنظمة هشة تابعة لها، تتقاسم معها بعض المصالح والثروات، وتجاهلت شعوب القارة، في وقت كانت قوى جديدة، في مقدمتها الصين وروسيا، وهي قوى لا يوجد لها أي ماض استعماري قمعي ودموي، تتغلغل داخل القارة، وتقيم علاقات شراكة، تقوم على احترام سيادة الدول، وتقاسم المصالح؛ بل مساعدة هذه الدول على تحقيق سيادتها واستقلالها، والسيطرة على ثرواتها، ووضعها في خدمة تنمية بلدانها وتطويرها، وهو ما يحظى بقبول واسع من تلك الدول والشعوب.

أمر آخر في غاية الأهمية، وهو أن فرنسا لم تقم بالمصالحة مع ماضيها الاستعماري، والاعتذار عما ارتكبته من أعمال قمعية ودموية، أو تعويض ضحاياها على غرار ما فعلته الكثير من الدول الاستعمارية السابقة. وبالتالي فإن فرنسا، في نهاية المطاف، مرشحة لخسارة إفريقيا؛ لأنها محكومة بثقل التاريخ، وماضيها الاستعماري الرهيب الذي لم تعترف به حتى الآن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4v2uexw5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"