صرخة بسوق الصفافير

00:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
«صرخة وضايعة بسوق الصفافير» هذا المثل الذي أطلقه أهل بغداد على من يأتي إلى هذا السوق ويمارس هوايته في التعبير عن شيء يضايقه ويغضبه أو على حدث ما سواء أكان سياسياً أم غيره، ويقال بأن مكتشف علم العروض والعالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي أخذ من صوت الصفافير في هذا السوق أساساً لبحور الشعر وعلم العروض، وهو الجمال الذي استخرجه من الضجيج، بخلاف ضجة وصيحة وصراخ المتشائم من وضعه والذي لم يأخذ من ذلك السوق إلا تلك الصرخة التي ذهبت سدى ولم يسمعها أحد.

إن الشعر العربي بقي خالداً منذ سنين طويلة، ولم تستطع محاولات تغريبه أو طمس معالم هويته من أن تنزله عن عرشه، فهو بقدرته على دغدغة الشعور وبتلك الهزة التي يشعر بها العقل الباطن وتقبلها غرائز البشر بقي حاضراً، ولذلك يعرف الشاعر أبو العلاء المعري في كتابه «اللزوميات» هذا الشعر على أنه كلام موزون تقبله الغريزة، وربما الكلمة الأخيرة هي التي توضح هذه القيمة، فالغريزة العربية تحديداً اعتادت على أجواء الإنشاد الذي يهز باطن الشعور ويسلب داخل النفس فيجعلها تتمايل طرباً وبهجة.
ونظراً لاستسهال البعض هذا الصعب، حاولوا أن يتصفوا به وينتسبوا إليه بوسائل كثيرة، وصعدوا إلى أنفته وبرجه العظيم من طرق لا تؤدي إليه، وكما يقول الحطيئة: الشعر صعب وطويل سلمه/‏ والشعر لا يستطيعه من يظلمه/‏ إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه/‏ زلت به إلى الحضيض قدمه/‏ يريد أن يعربه فيعجمه.
وقد ارتبطت القصيدة العربية بعاطفة الناس أيما ارتباط، وهذا الاقتراب من النفس ومن الشعور أعطاه قيمة كبيرة، فمناجاته للروح ودغدغته للعاطفة فتح له أبواباً كثيرة للدخول والاستقرار في النفس واتخاذ مكان جميل ومريح في الذائقة، وفي الشعر العربي ما لا يعد ولا يحصى من تلك الأبيات العاطفية الشجية، ومن يريد التمثل بالقرب والمناجاة للحبيب لا يستطيع إلا أن يتوقف عند قيس بن الملوح وهو يتغنى بعشقه ويبرز عاطفته ويتباهى بها، فهو يقول في إحدى قصائده التي تبدو فيها العاطفة بهية:

كَأَنَ القَلبَ لَيلَةَ قيلَ يُغدى

                  بِلَيلى العامِرِيَةِ أَو يُراحُ

قَطاةٌ عَزَها شَرَكٌ فَباتَت

                تُجاذِبُهُ وَقَد عَلِقَ الجَناحُ

لها فَرْخانِ قد تُرِكَا بِقَفْرٍ

                وعشُهما تصفِقُهُ الرياحُ

من هذا الألم الجسدي والنفس في صورة القطاة التي علقت بالشرك وهي تفكر في الفرخين استطاع قيس أن يخلق جواً شجياً مملوءاً بالعاطفة.

في الشعر تتجلى هذه العاطفة كثيراً وخصوصاً في القصيدة البيتية وهي عمود الشعر الذي عرفه العرب منذ عصر ما قبل الإسلام، واستمر هذا الشكل حاضراً ببهائه وسطوته، وتمثل به الكثير في مواقف مختلفة كالعاطفة والحكمة وفي القضايا الاجتماعية والقومية، وكذلك كان للتفعيلة دور جميل أخذ جزءاً من التأثير على العاطفة والوصول بقوة وبمحبة إلى النفس والشعور.
إن محاولة تهميش هذا الدور الحضاري الذي استطاع أن يحافظ على تاريخ وإرث العرب وعلى اللغة العربية لن تجدي، وسيبقى هذا الجمال حاضراً دائماً ولن تشوهه ترسبات تأتي من هنا وهناك، فهي شبيهة بتلك الصرخة التي يطلقها البعض في سوق الصفافير ولا يسمعها أحد، وسيبقى ما أخذه الفراهيدي من ضجيجهم ليصنع منه حركة وإيقاعاً كان حاضراً قبل هذا الصوت عند العرب ولامسوه من خلال إيقاعات وحركة دوابهم، فشكلوا منه موسيقى أطربت وأنشدت وخلدت في الذاكرة، ليبقى ديوان العرب مفتوحاً وجاذباً للذائقة وملامساً شغاف الروح.


محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"