السوق الأمريكي.. كي يكون حراً

20:57 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

إلى جانب تداخل ملكيات بضع من الشركات الكبرى ذات الرسملة التريليونية، وتبادل التمثيل في مجالس إداراتها، هناك العديد من «البقع» الأخرى الداكنة، العالقة في ثوب سردية «حرية وانفتاح السوق الأمريكية»، منها على سبيل المثال، تمتع حفنة من كبار المتداولين في بورصات الأسهم بامتياز حرية وسهولة الوصول الى المعلومات التي تساعدهم على بناء قراراتهم الاستثمارية (شراءً أو بيعاً)، أو كما سماها جوزيف ستيجليتز في كتابه «السقوط الحر.. الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي»، بالمعلومات غير المتناظرة أو غير المتماثلة Asymmetric information؛ وهناك «صنّاع السوق» المعروفون بوتيرة إقبالهم العالية على التداول من دون أن تكون موضع تساؤل من قبل الجهات المنظمة Regulators، الى جانب التداول الذي يتم بعد ساعات العمل المعتمدة. ثم إن بنك الاحتياطي الفيدرالي مملوك في العمق للقطاع الخاص متمثلاً في قلة تعمل من وراء حجاب.

ومن الواضح أن نفس أفراد المجموعة (القلة) الذين يسيطرون على كل شيء في الاقتصاد، يسيطرون أيضاً على وسائل الإعلام الكبرى السائدة؛ فتبحث عن ملكيتها وتجد نفس الملاك. تماما ًكما لا يتصور المتابع أن شركات غير متجانسة النشاط، مرتبطة ببعضها البعض. لكن هذا يحدث، وذلك برسم مصفوفة حيازات الملكية في الشركات التالية: فايزر وكوكاكولا ووالت ديزني وجنرال موتورز و«إتش بي» ومجموعة سيتي وNorthrup Grumman وتارجت وAnthem! وهذا ينطبق على كبريات الشركات الدوائية والغذائية (Big Pharma and big Food)، وكبريات شركات الترفيه (Big Entertainment)، وشركات إنتاج السيارات، وشركات إنتاج أجهزة الكمبيوتر، والبنوك، والشركات الكبرى التي تنتظم المجمع الصناعي العسكري، وشركات المخازن والتجزئة الكبرى، وشركات التأمين الكبرى. وهذا ليس سوى الجزء الصغير «الناتئ» والظاهر من التشبيك الحاصل في تبادل مراكز الملكية.

تبدو أمريكا اليوم غير تلك التي عرفها العالم قبل الأزمة المالية العالمية (2008). فلم تعد أسطورة ازدهارها بسبب سوقها الحرة والمفتوحة وحلمها الأمريكي، كما في السابق. كثير من مناطق مدنها الداخلية باتت تنتمي الى «العالم الثالث» بسبب تنامي الفقر ومناظر المشردين والبؤس. كما أن الوضع في المدن الكبرى يبدو قاتماً بعض الشيء بسبب مشاكل ارتفاع تكاليف المعيشة والجريمة والتشرد. حدث ذلك على مراحل متتابعة: العودة للنقود الورقية بعد فك ارتباط الدولار بالذهب في 1971 ما أدى إلى ركود الأجور الحقيقية لمعظم الأمريكيين وانتقال الصناعة إلى الخارج وتهميش وبعثرة الشركات الصغيرة على أيدي الشركات الكبرى مثل «ولمارت» و«أمازون»، واستبدال القطاعات الإنتاجية بقطاعات نهمة، وتحديداً المصارف وشركات وصناديق الاستثمار الضخمة، وقطاعات المضاربات الكبرى (العقارات وسوق الأوراق المالية).

السؤال الآن، كيف يمكن للسوق الأمريكي أن يكون حراً، أو بالأحرى كيف له أن يستعيد حريته الرأسمالية، كما هي موصوفة في «البيان الرأسمالي الأول» (ثروة الأمم لآدم سميث)، والمادة الخامسة من الدستور الأمريكي التي نصت على وجوب وجود اقتصاد موجه الى جانب الاقتصاد الحر (اقتصاد مختلط، كما ذهبت رغبة واضعي الدستور)؟

من الواضح أن الأمر سوف يتطلب إزالة كافة المعوقات سالفة الذكر، التي قد تبدو عملية التخلص منها من جنس ما يسمى العلاج بالصدمة Shock therapy؛ بما يشمل ذلك إنشاء بنك مركزي تابع للدولة بدلاً من الاحتياطي الفيدرالي الذي يتصرف على نحو خاص أكثر منه عام، واستعادة الآلية السليمة لطباعة النقود القائمة على الأساسيات الاقتصادية ومنها الالتزام بوظائف النقد الحقيقية وبمعايير العرض النقدي، وتمكين السوق من العثور على الأسعار الحقيقية، والتخلص من جميع مجالس إدارات الشركات المتشابكة، ووضع حد لآليات العمل التزويرية لسوق الأوراق المالية، وإيقاف الباب الدوار بين الحكومة والشركات.

بعد هذا سوف تتضح الصورة الحقيقية وليست الاحتيالية لأسطورة «الازدهار المبني على السوق الحرة»، وسيظهر الواقع الحقيقي لكثير من المدن الأمريكية الداخلية، الزاخرة بمشاهد الفقر والبؤس وتهالك بناها التحتية فضلاً عن تفاقم الأوضاع المعيشية في المدن الكبرى، ليس ارتفاع تكاليف المعيشة والجريمة والتشرد، سوى عينة منها. لكن هذا لن يحدث على الأرجح، لأن السلطات الأمريكية الحاكمة (التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية) متضامنة في رفضها لأي دور مناسب للحكومة، ولأي إصلاحات بنيوية رئيسية كما فعل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بحزمة إصلاحاته المسماة «الصفقة الجديدة» (New Deal) التي نُفذت على مدار الفترة من 1933 الى 1939 لمعالجة صدمة الكساد الكبير.

* خبير في العلاقات الاقتصادية الدولية - البحرين

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3mm323mx

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"