دردشة في مآلات الترجمة

01:50 صباحا
قراءة دقيقتين

هل على المترجمين أن يسلّموا مفاتيح الترجمة للذكاء الاصطناعي؟ ربّما، لكن للترجمة حدود، فأيّ خوارزميّات تجرؤ على ترجمة «رسالة الغفران»؟ هذه الأعجوبة الإبداعية الأدبية قمّة جمالها وقيمة روعتها تكمنان في أن ترجمتها جناية مسخ، ترجمتها ترجُمها حتى الموت، فترجمانها راجمها الرجيم. المثل اللاتيني يُصوِّر المترجم خائناً، لكن ترجمة رائعة أبي العلاء، حتى من قِبَل الإنسان تتجاوز بكثير تحطيم جماليات الأسوار اللغوية والقلاع الأسلوبية، فهذه المحاولة تشبه تجريد السيمفونية التاسعة لبيتهوفن من كل صروح التأليف الموسيقي، والإبقاء على اللحن المميز فقط. تستطيع حينئذ أن تُركّب عليه كلمات نشيد لأطفال الحضانة. أمّا فظاعة التشويه في القمة الأدبية المعرية وأعظم عمل موسيقي في تاريخ البشرية، فالأصدق تجسيداً هو تصوير آية في جمال الخلق هيكلاً عظمياً.

ثمّة قائمة طويلة من الأعمال التي تستعصي على الترجمة التي توكل إلى الذكاء الاصطناعي، لأن ترجمة النصوص الاستثنائية ليست محل صرافة، تُعطي عملةً وتأخذ ما يعادلها في عملة أخرى. في بعض الحالات لا يحتاج المرء في الترجمة إلى صراف، وإنما إلى صائغ أو مؤسسة «سوذبيز» إذا كانت لديك عملة فرعونية أو مسكوكة مروانية أو هارونية أو حتى ليرة عثمانية. لن يفيدك الذكاء الاصطناعي ولا مترجمو وكالات الأنباء حين تريد ترجمة «المواقف والمخاطبات» للنفري أو «فصوص الحكم» لابن عربي، بل إن الزمان والمكان يلعبان أدواراً بهلوانيةً في اللغة تجعل ترجمة قصيدة مثل معلقة لبيد بن ربيعة ضرباً من المغامرة، بالرغم من خلوّها من الرمزية الصوفية ودوّامات الفلسفة المثاليّة. غلبة المرادفات في العربية هي في حدّ ذاتها متاهات، مثلاً: العبّاس هو الأسد، لكن أضيفت إليه صورة العُبوس، وهاشم أضيفت إليه صورة تهشيم العظام.

النظرة الواقعية تجعلنا ندرك أن الذكاء الاصطناعي كسب المعركة والحرب معاً، فقبل بلوغه العاشرة من العمر صار يترجم بكفاءة نصوصاً عالية التخصصات، إلى عشرات اللغات، إلا إذا كانت غير مؤهلة بعدُ لتقبل مستويات رفيعة من التخصص. ألا يستتبع ذلك السؤال الذي قد يقض مضاجع الأقلام الإبداعية: هل نحن أمام مستقبل في المدى المنظور قد تغيب فيه الجماليات الأسلوبية؟ كيف سيكون مصير الشعر؟ عجيب، فلم تعد تظهر في آفاق البدائع الأسلوبية أعمال قصصية كقصص جنكيز أيتماتوف في شعريتها. أمّا أعمدة الصحف فحدد للذكاء الاصطناعي عدد الكلمات والموضوع لترى العمود قبل أن يرتد إليك طرفك.

لزوم ما يلزم: النتيجة الاستشرافية: على المثقفين أن يستبْقوا لأنفسهم مساحةً صغيرةً للتفكير في المآلات الثقافية، قبل أن تتصحّر الأوساط أمامهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39frw248

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"