ليبيا وشبح الفوضى والانقسام

03:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

استمرار الليبيين في هدر المزيد من الوقت، في متاهات الصراع، يضع البلاد أمام مستقبل غامض ومفتوح على كل الاحتمالات السيئة.

يوماً بعد يوم، يزداد الوضع تعقيداً داخل الأراضي الليبية، فحالة الانقسام أضحت واقعاً يعكّر مستقبل البلاد والمنطقة المغاربية برمتها، ومما زاد من حدته تصاعد التدخلات التي تباشرها الكثير من القوى الإقليمية والدولية بسبل مختلفة.

منذ رحيل القذافي عام 2011، لم يتمكن الليبيون من بلورة توافقات بنّاءة تسمح بالاستفادة من تجارب الماضي، وتدعم الاستقرار في البلاد؛ بسبب تباين المواقف بين الفصائل الليبية نفسها، أو بين الدول العربية، والأوربية أيضاً.

في ظل غياب أي دور عربي أو مغاربي بارز، بدأت الأحداث تتسارع، لتخرج عن السيطرة؛ نتيجة تدهور النظام الإقليمي العربي، وجمود الاتحاد المغاربي. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها بعض الأطراف العربية في سبيل تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين، وإصدار مجلس الأمن لعدد من القرارات في هذا الخصوص، فإن كفة التفرقة كانت أكثر حضوراً، بعدما خرجت الأمور من أيدي الليبيين تباعاً، لترتهن البلاد لأجندات أطماع دولية، وترتيبات تضاف إلى باقي الترتيبات التي أدخلت المنطقة العربية في متاهات من العنف والصراع..

في عام 2015 تمّ إبرام «اتفاق الصخيرات» الذي استضافته المملكة المغربية، بمشاركة قوى ليبية عدة، وبإشراف من الأمم المتحدة؛ حيث شكّل فرصة مهمة لرأب الصدع، ووقف العنف، وإطلاق العملية السياسية؛ وفق ترتيبات ومبادئ مهمّة أقرها الاتفاق، أهمها تأكيد وحدة وسيادة ليبيا.

وقد صل الأمر إلى حدّ دخول البلاد في نفق انقسام سياسي، بين سلطتين تدعيان الشرعية على الحكم، الأولى شرقي البلاد تقودها حكومة الوفاق الوطني، وتتخذ من طرابلس عاصمة لها، والثانية، تتمركز في بنغازي غربي البلاد ويقودها المشير خليفة حفتر؛ حيث خلّف تطور الأوضاع على الأرض مخاوف جدّية داخل البلاد، وفي محيطها المغاربي والمتوسطي، وبخاصة مع تصاعد العمليات العسكرية على مشارف طرابلس، وهو ما أفرز ردوداً دولية واسعة تعكس التخوف من تطور الأمور نحو الأسوأ.

وعلى الرغم من الإعلان قبل أسابيع عن هدنة بين الطرفين المتصارعين، فإن تلك الهدنة لم تستمر طويلاً كمثيلاتها من قبل؛ بفعل الخرق الذي تعرضت له، من جانب ميليشيات طرابلس، وقد أوردت الأمم المتحدة أن عدد الضحايا داخل ليبيا وصل خلال آخر ثمانية أشهر إلى نحو 200 مدني و200 مقاتل، إضافة إلى نزوح أكثر من 170 ألفاً.

بعد مرور أيام على الوساطة التي قادتها موسكو، والتي لم تفض إلى نتيجة إيجابية في هذا الخصوص، انعقد يوم 19 يناير/كانون الثاني 2020 «مؤتمر برلين» بمشاركة عدد من الدول الغربية؛ كألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا، وشارك عن الجانب العربي الإمارات العربية المتحدة ومصر والجزائر، إضافة إلى دول أخرى كالصين والكونغو وتركيا، وكذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي. وسط إقرار جماعي بعدم فاعلية الحلّ العسكري في إرساء حلّ مستدام للأزمة، وعلى الرغم من حضورهما، فقد امتنع المشير خليفة حفتر وفايز السراج عن الجلوس إلى طاولة واحدة.

أكّدت الدول المشاركة في المؤتمر ضرورة الامتناع عن التّدخل في النزاع العسكري الدائر في ليبيا، وإحداث لجنة مراقبة دولية؛ لمواصلة التنسيق بين الأطراف المتصارعة، ودعم كل الجهود الرامية إلى حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة سابقاً، مع إنهاء المرحلة الانتقالية؛ من خلال انتخابات حرّة، وإنشاء مجلس رئاسي، وتشكيل حكومة موحّدة مدعومة من مجلس النواب.

ويبقى الرهان قائماً بشأن بلورة جهود تدعم حظر الأسلحة، ووقف إطلاق النار، والحرص على عدم خرقه، كسبيل لتوفيق شروط مناسبة؛ لإطلاق حوار يسمح بإرساء حلّ سياسي، وهو مطلب لا يخلو من صعوبات ميدانية، تعكسها التقارير الواردة من الميدان، والتي تشير إلى إغلاق موانئ عدة في وجه تصدير النفط، وخطّ أنابيب النفط الرئيسي بالبلاد.

أضحى التّهافت الإقليمي والدّولي على ليبيا أمراً مكشوفاً وعلنياً في الآونة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى، وعلى الرغم من التداعيات الواقعية والمحتملة للوضع الليبي على المنطقة المغاربية، فإن حضور هذه الأخيرة - ومع جمود الاتحاد المغاربي- لم يكن في مستوى التحديات المطروحة، فيما عمّقه عدم دعوة المغرب للمؤتمر، واعتذار تونس عن الأمر.

إن استمرار الليبيين في هدر المزيد من الوقت، في متاهات الصراع، يضع البلاد أمام مستقبل غامض ومفتوح على كل الاحتمالات السيئة؛ فالجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، أو تلك المتمركزة في العراق وسوريا، ترى في ليبيا - ومع استمرار الوضع بما هو عليه - فضاء مناسباً للتّمركز والتمدّد و«التخطيط».. فيما يعطي الوضع لبعض القوى الدولية والإقليمية مثل تركيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة المزيد من الفرص؛ لاستغلال هذا البلد كفضاء لكسب معارك اقتصادية واستراتيجية..

لم يخف الكثير من المراقبين تخوّفهم من تحوّل الأوضاع الليبية إلى ما يشبه الحالة السورية، ويمكن القول إنّه وبالنظر إلى الموقع الاستراتيجي لهذا البلد المغاربي، وقربه من أوروبا يبقى من الصعب أن تتدهور الأمور الأمنية، وتتحول إلى فوضى قد ترهق دول الضفة الشمالية للمتوسط، وبخاصة على مستوى تمدّد الحركات الإرهابية ونشاطاتها، وتنامي الهجرة غير النظامية عبر البحر المتوسط انطلاقاً من هذا البلد، وهو الاحتمال الذي ستحول الدول الأوروبية بكل إمكاناتها دون تحقّقه؛ لكن في المقابل.. ثمّة احتمال سيئ وارد، وهو خطر الانقسام الذي قد تدفع نحوه القوى الدولية المتصارعة على خيرات هذا البلد، وهو احتمال يقتضي من الليبيين اليقظة، وتجاوز كل الخلافات، واستحضار المشترك؛ لمواجهة كل المؤامرات الخارجية التي تتربّص بدولتهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"