عادي
فضاءات

الكتب.. صناديق بريد أبدية

00:01 صباحا
قراءة 8 دقائق
لوحة لفان جوخ
  • الرسائل تكشف جوانب خفية في حياة المبدعين

د. محمد مهدي حميدة

للرسائل في العصور السالفة قيمتها ومقامها، كونها إحدى أبرز الوسائل الناقلة للحال والسائلة عن المآل، والآخذة في الذهاب والإياب عبر الزمان والمكان، والعازفة على أوتار الشعور، والكاشفة للأفكار والشجون والداعية إلى صلة المقطوع، وقطع الموصول، والناقلة للسلام، كما أنها المنذرة بالأهوال أو تردي الأمور، وهي ما هي عليه من صور وتصورات قد يحار المرء في حصرها وتفنيد فحواها، وهو ما دفع الكثير من الباحثين لتحري وجودها، وتحقيقها، وجمعها في كنف الكتب، لكي تكشف لنا جوانب شتى من حياة المبدعين والمفكرين وكبار القوم والعلماء وغيرهم.

الرسائل التي نحن في حضرتها، والتي نحاول أن نحلق عبر وجودها لم تقف عند حدود من قاموا بكتابتها فحسب، ولكنها أيضاً نراها قد شغلت بال آخرين ممن اعتبروها أكثر من مجرد وثائق مؤشرة ودالة وأكثر من مجرد خطابات ناقلة للأخبار أو تستفسر عنها، فدفعوا بها دفعاً لكي تكون مادة الكثير من الكتب وتؤلف كذلك مواضيعها، وتجعل الكتب الحاوية لها بمثابة صناديق بريد أبدية توزع بريدها ذاك على آلاف الأشخاص الراغبين في العالم، حيث تصل إلى الأيادي التواقة التي تتلقفها في كل مكان من دون أن يهم أبداً وجود عنوان بريدي من عدمه ليستقبل هذه المجموعات المتلاحقة من الرسائل.

ويهمنا في هذا المقام أن ندرك أن الرسائل، التي نقلت إلى جوف الكتب كان من بينها رسائل ذاتية المنحى، ومن بينها كذلك رسائل ذهبت في طريقها لتتحدث إلى الآخر الأمين أو المعشوق أو مصدر الثقة أو الشريك في الفكر والثقافة والوعي أو حتى الأقرب للنفس من دون سائر المحيطين، وربما كانت رسائل للأنداد، ومنها أيضاً رسائل كانت قد كتبت لمجهولين، وكأنما أراد كاتبها أن يكتب لأولئك الذين لم يوجدوا أبداً في الحياة إلا في جوفه هو فحسب، وفي تصوراته وأحلامه وخيالاته.

علاقة استثنائية

ومن بين تلك الكتب الكثيرة التي حوت في جعبتها رسائل نادرة وذات أهمية كبرى كتاب «المخلص دوماً فنسنت.. الجواهر من رسائل فان جوخ»، وهو كتاب قام بإعداده ليو يانسن، وهانز لويتن، ونيينكه باكر، وقام بترجمته الشاعران ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدي (هرمس)، وصدرت طبعته العربية قبل عدة سنوات عن «الكتب خان» المصرية في طبعة خاصة وفاخرة تقارب صفحاتها 1300 صفحة، وفي مقدمته للكتاب يوضح عبد اللطيف: (المخلص دوماً فنسنت.. الجواهر من رسائل فان جوخ هي أنطولوجيا تضم 265 رسالة من مجمل 903 رسائل تركها المصور الهولندي الأشهر. تغطي مرحلة زمنية هي بالتقريب النصف الثاني من عمر الفنان، ويضيف عبد اللطيف كاشفاً عن القيمة الأدبية لرسائل فنسنت: «تبدو العلاقة الاستثنائية لفنسنت بالأدب ومبدعيه واضحة في الرسائل، إذ يظهر الأدب ولعاً موازياً إلى جانب ولعه الأساسي بفنون التصوير والرسم والحفر. وعلى العكس من معظم أبناء صنعته، كان متابعاً جيداً للإنتاج الأدبي في كل اللغات التي أجاد القراءة بها، أي الهولندية والإنجليزية والفرنسية. وأكثر كتاب القرن التاسع عشر تأثيراً فيه هم تشارلز ديكنز وبلزاك وإميل زولا، فضلاً عن الكُتّاب الدينيين والرومانسيين الذين تأثر بهم في شبابه المبكر. ونحن نستوعب جيداً إعجابه بزولا، الذي حاول محاكاة التأثير البصري لعمل الانطباعيين في فقرات وصفية طويلة يلعب فيها بالأضواء والظلال ضمَّنها بين ثنايا سرده الطويل، ولاسيما في رواية «بطن باريس» التي يستشهد بها فنسنت كثيراً. كان التصوير الانطباعي في تلك اللحظة إذاً مرجعاً بصرياً للروائيين. لكننا قد نندهش لإعجاب فنسنت بديكنز أو ببلزاك بواقعيتهما المفرطة بمعايير ذاك الزمان، وإذا عزونا ذلك لاهتمام فنسنت بتصوير حياة الناس العاديين، ذلك الاهتمام الذي دفعه أيضاً لتقديس مصور لم يكن من نجوم العصر وهو فرانسوا مييه مصور فلاحي إقليم الباربيزون الفرنسي، وأكثر الأسماء تردداً على طول رسائل فان جوخ».

ويشير ياسر عبد اللطيف إلى الأسبقية الزمنية لموهبة فنسنت الأدبية عن موهبته الفنية الكبيرة على الأقل بعشر سنوات بحسب ما ورد في الرسائل، ويؤكد المترجم أن فنسنت كان يعي أهمية الكلمة وكان يرى فيها فناً باقياً، ويتخير عبد اللطيف من إحدى الرسائل التي وجهها الفنان إلى صديقه المصور إميل برنار ما يدلل على ذلك، ونراه -فنسنت- يقول: «ثمة أناس كثيرون، خصوصاً بين رفاقنا، يتصورون أن الكلمات لا شيء في المقابل، ألا تظن، أنها مثيرة للاهتمام وبالصعوبة نفسها لرسم شيء ما. ثمة فن للخطوط والألوان، لكن ثمة فناً للكلمات التي تبقى».

لقد تم العثور على المئات من رسائل وخطابات فنسنت فان جوخ وتم جمعها ونشرها وترجمتها إلى لغات عديدة، وذلك لما تضمنته من رؤى وأفكار وطرق تفكير عبقرية وغير اعتيادية تتعلق بالإنسان والحياة والفن والكتابة والوجود والكينونة وما إلى ذلك من أمور وموضوعات ذات أهمية قصوى، خاصة وأن أقدمها يرجع إلى العام 1872، ما يعني أن الفنان قد استمر في كتابتها على مدار 18 عاماً، وذلك حتى وفاته وهو في السابعة والثلاثين من عمره عام 1890، وهو ما يعني بطبيعة الحال أنه استمر في كتابة هذه الرسائل طوال مدة تقارب نصف عمره تقريباً، وهو ما يجعل هذه الرسائل والخطابات نابضة بالحيوية، أو لنقل أنها بمثابة حياة ثانية ناطقة ومكتوبة كونها تحمل كلام الفنان أو صوته الذي غاب مبكراً.

أحلام وهواجس

وكان الفنان قد كتب رسائله بالهولندية والفرنسية، موجهاً إياها إلى أصدقاء وأشقاء وفنانين أحاطوا به أو ربطته بهم علاقات وصداقات في سنوات عمره التي لم يجد خلالها إلا الرسائل لتكون هي من دون غيرها الناقلة لكل ما يعتمل في دخيلته تجاه العالم والوجود والكلمة واللون، حيث حملت الأوراق كل أحلامه وهواجسه، وتسلل من ذهنه وفؤاده كل فكرة أو رؤية أمكن لها أن تكبر وأن تتنامى خلال مسطحاته اللونية التي دون غيرها من مسطحات اللون لدى عموم الفنانين ما يشعر الإنسان مع مشاهدتها بأنه إنما يشاهد لوحة مشبعة بالنبض والحياة والصدق، فالفنان لم يكن لينفعل بما يصوره فحسب، ولكنه يعايشه بكل كيانه، وكأن كتل اللون المتدفقة على مسطح لوحاته قد عجنت حينها بالدم والعرق وتجاوزت ما يفترض أن تكون عليه كصبغات تكتسي بها الأشياء في جوف اللوحات وخلال تفاصيلها الدقيقة.

لقد توجهت رسائل الفنان إلى الأصدقاء إميل برنار وأنطوان فان راباردوجان بيتر رسل، وإلى أخيه تيو وزوجته وهي الرسائل التي كان لها النصيب الأكبر من حيث العدد والحجم، حيث نشرتها جو فان جوخ بونجر زوجة أخيه تيو للمرة الأولى في ثلاثة مجلدات، كما توجهت بعض الرسائل إلى أمه وكذلك شقيقته وليماين والناقد ألبير أورييه وكذلك كان الحال مع الفنان الشهير بول جوجان، وقد كانا يتبادلان الرسائل فيما بينهما، كما توجهت الرسائل إلى آخرين غيرهم ممن تماسوا مع حياة الفنان وتقاطعوا معه خلالها.

وأجدني على المستوى الشخصي أحب أحد المقاطع الواردة في رسالة فنسنت إلى أخيه تيو، والتي كان قد كتبها في كويزمس بين الثلاثاء 22 والخميس 24 من يونيو/حزيران 1880 وتحدث فيها عن شغفه بالكتب والفن معاً قائلاً: «لأسمي أحد صنوف هذا الشغف، لدي بشكل أو بآخر ولع لا يقاوم بالكتب، وبي حاجة مستمرة لتعليم نفسي، للدراسة، وبدقة لو ترغب كحاجتي لأكل الخبز. ستكون قادراً على تفهم ذلك. عندما كنت في محيط مختلف، في محيط من الرسامين والأعمال الفنية، فأنت تعلم أنني وقتها انتابني شغف عنيف بهذه الأجواء ما يتجاوز مجرد الحماس لها. وأنا أندم على ذلك، والآن، بعيداً عن البلاد مرة أخرى، فأنا أشعر بالحنين لبلد الرسم. أنت ربما تعرف بوضوح أنني قد عرفت جيداً وربما لم أزل أعرف ماذا كان رامبرانت أو مييه أو جول دوبريه أو دولا كروا أو ميليه أو ماريس. حسناً، أنا لم أعد في ذلك المحيط، ومع ذلك شيء يسمى الروح، وهم يزعمون أنها لا تموت، إنها تعيش للأبد، وأنها تسعى إلى الأبد وإلى أبد الآبدين. وعليه، فبدلاً من الاستسلام للحنين للوطن، فقد قلت لنفسي إن وطن المرء وبلده الأصلي هو في كل مكان، وعليه، فبدلاً من أن أترك مجالاً لليأس، فأنا أخذت طريق الأسى النشط ما دام لدي طاقة للنشاط، وبكلمات أخرى، لقد فضلت الأسى الذي يدفع إلى الأمل والطموح والبحث، على ذلك النوع الكئيب الراكد الذي يدفع إلى اليأس. ولذا فقد درست الكتب التي تحت يدي بجدية، كالكتاب المقدس وكتاب الثورة الفرنسية لميشليه، ثم في الشتاء الماضي وبجدية شكسبير وقليلاً من فيكتور هوجو وديكنز وبيتشرستو، ثم مؤخراً إسخيليوس ثم عدداً من الكتاب الأقل كلاسيكية، عدداً من الأساتذة الصغار الجيدين. ستعرف أن واحداً ممن يصنفون بين المعلمين الصغار يسمى فابريتيوس أو بيدا».

مثابرة وشغف

إنه مقطع شديد الأهمية لكل فنان جاد، ذلك لأنه يتحلى بالصدق، إضافة إلى أنه يعكس بجلاء حقاً ذلك النوع من الجلد الذي طبع شخصية الفنان الفذ وكشف عن مثابرته وشغفه بالفن والقراءة والتعلم، فليس الفن على هذا النحو فقط مجرد رسم وتلوين ونقل مشاهد وليس كذلك مجرد محاكاة أو تعبير بأسلوب أو بآخر عن أحداث ما، ولكن الفن الأجدى هو في المقام الأول موقف والتزام ووعي يتنامى بالمعايشة والانصهار في الحياة بكل ما تتضمنه في كنفها من تبدلات وأحوال، وهذا النوع من الفن إنما يصير فارقاً بالقراءة المحمومة المتواصلة، تلك التي ترسم الحياة والفلسفات والتعابير لا بالألوان أو الخطوط كما يصنع الرسام، وإنما بالكلمات والجمل القادرة على احتواء الفكر والشعور في ثناياها.

وكيف لنا أن نشاهد الآن لوحات فنسنت فان جوخ بعد أن كشفت لنا رسائله عن شغفه وعن مكونه الثقافي الفذ، وكذلك عن تعلقه بالكتاب وعن قدراته الإبداعية التي جعلته يجيد عن حق تقديم وثائقه الإنسانية الشاهدة تلك، والتي لا غنى أبداً عن قراءتها وتحفيز الفنانين وحتى الكتاب في زماننا نحو دراستها وتحليلها لكي يدركوا أن الفن لم يكن بحال من الأحوال مجرد موهبة فحسب أو تمرس على الرسم والتلوين فحسب، وإنما هو طريق طويل وشاق يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد وتثقيف الذات من دون هوادة أو تخاذل وكسل كي تكون في عملها الفني فريدة وفارقة عن كل ما دونها، وكي تكون قادرة على طرح الجديد والمغاير.

معاناة وألم

حشد فنسنت في رسائله الكثير من التخطيطات الأولية والاسكتشات للوحات قام برسمها لاحقاً، ودراسات لمشاهد وكائنات وأشياء، كان يرى أنه من الصواب أن يطلع عليها من يكاتبه حتى تتكامل الرؤية البصرية مع النص الشارح، وهذا هو ما يميز عادة رسائل الفنان عن غيره من الكُتاب والمبدعين، فالكلمة والصورة صنوان دائماً وأبداً ولا يفترقان، والحال أبلغ وأجمل حين يمزج فنان عبقري بينهما في رسائله التي، ونحن نطالعها الآن وقد شكلت العديد من الكتب والمجلدات مختلفة الطبعات، لا يسعنا إلا أن نصفها بأنها رسائل إلى العالم، حيث تتعدى تاريخها القديم بوصفها رسائل من شخص إلى شخص ما، أو إلى عدد محدد من الأشخاص. لقد كتبت هذه الرسائل من دون أن يُعرف كاتبها أو أن يضع في حسبانه أنها ستنشر في أي وقت من الأوقات، لذا فقد كانت حاوية لواقع إنساني وفني خارق ومؤثر، بيد أنها كشفت عن حجم المعاناة والألم وحاجة الفنان إلى أدواته وخاماته، وبينت صراعاته الحياتية وشطحاته الفنية ليكون في نهاية المطاف ما كان عليه من عبقرية فنية يصعب تكرارها مرة أخرى، كما يصعب نسيانها أو تجاوز خلودها الفني.

 

الصورة
1
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/36ym3ads

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"