«واقعية» اليسار أم تيهه؟

00:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

قد يكون صادماً القول إن الحلم اليساري، الذي كان واعداً، في القرن العشرين، قد ولّى. ومثل هذا القول يتجاوز بعض الآراء السائدة، التي تعتبر أن النظرية صحيحة، لكن العيب في التطبيق، وأن الذي أفسدها، جماعة من المحرّفين والطغاة والحزبويين المأخوذين بالشمولية والواحدية، وادّعاء الأفضليات والزعم بامتلاك الحقيقة.

علينا الاعتراف بأن ثمّة إشكاليات ومشكلات فكرية وعملانية تحتاج إلى إعادة قراءة وتقويم. وباستثناء المنهج الذي جاء به كارل ماركس، والذي لا يزال حيوياً، خصوصاً بتعاشقه مع المناهج الاجتماعية الأخرى، فإن تعاليمه كانت تصلح لعصره، وليس لعصرنا، لاسيّما ونحن في الطور الرابع للثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي. ولو جاء ماركس اليوم، لخالف الكثير من استنتاجاته وتعليماته، التي أثبتت الحياة عدم صحتها، فضلاً عن أن بعضها تجاوزه الزمن.

لقد حققت الأنظمة الاشتراكية بعض المنجزات التي لا يمكن إغفالها على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبشكل خاص في ميدان الصحّة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي، إلّا أنها وصلت إلى طريق مسدود، بل أفق مغلق، بسبب شحّ الحريّات، خصوصاً حريّة التعبير، وعدم الاعتراف بالتعدّدية والتنوّع، فضلاً عن الاختناقات الاقتصادية التي عانت منها.

لم يكن أحد يتصوّر أن جدار برلين سيسقط يوماً ما (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989)، بل كان مجرّد التفكير في ذلك أقرب إلى الحلم أو الخيال، فكيف يمكن إزالة هذا «الصرح» الذي بناه خروتشوف في عام 1961 بسرعة فائقة ومباغتة للغرب لفصل برلين الشرقية عن برلين الغربية؟

وكان الاعتقاد السائد أن الأنظمة الاشتراكية منيعة ومحصّنة، فإذا بها تنهار مثل بيت من الورق، وقد سبقنا سارتر إلى ذلك، حين اعتبرها هشّة وخاوية من الداخل، على الرغم من مظاهر القوّة والبأس التي تبدو عليها من الخارج.

وحين نجحت المعارضة بعد حراك شعبي في الوصول إلى السلطة بفوز ليخ فاليسيا في بولونيا، وفاتسلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا، وأرباد كونز في هنغاريا، قبيل تحلّل الاتحاد السوفييتي، لم يكن لديها أي تصوّر عن المستقبل، أو معرفة بحقيقة الرأسمالية. كلّ ما كان في جعبتها هو شعارات عامة، وأحلام غامضة، وتوقعات لم تخل من طوباوية. وكان الثمن الذي على البلدان الاشتراكية دفعه مقابل الحريّات السياسية والانفتاح الاقتصادي، باهظاً وشروطه قاسية.

وظلّ اليسار تائهاً بين شمولية صارمة في الماضي، وليبرالية منفلتة في الحاضر، بل إن الأمر كان أكثر تعقيداً، فالتغيير الذي سعت إليه بلدان أوروبا الشرقية، ليس هو ما كان يدور في خُلد الأغلبية العظمى من الناس.

في أوروبا الشرقية، هيمنت اتّجاهات شعبويّة على مقاليد الأمور، بعد الترويج لليبرالية والتغنّي بفضائلها، الأمر الذي اتّجهت إليه بعض البلدان في منطقتنا بضجيج عال، لاسيّما بإعلاء شأن القطاع الخاص وتعطيل القطاع العام، بزعم الواقعية والتجديد الديمقراطي، وغير ذلك من ادعاءات.

صحيح أن دور اليسار قد أفل، لكن شيئاً واحداً بقي عنده، وهو إمكانيته على تحويل السخط المختمر لدى الناس إلى برنامج عمل، حتى إن بدا حالماً.. أولسنا نحلم، بل نغامر حين نبحث عن الحقيقة؟ ففي ذلك التعبير الأكثر واقعية عن ضمير الناس وهمومهم الجديدة – القديمة، والضمير هو القانون العام الأسمى حسب المفكر ثورو، فليست لحظة الانتشاء الجميلة، التي حصلت بعد سقوط الأنظمة، كافية لرسم صورة المستقبل، بل كان لا بدّ من التفكير في اختلال المعادلة خارج دوائر الوهم والتزوير والتواطؤ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycx7fbrt

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"