في مديح الورق

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

الحياة بين الكتب القديمة تشبه الحياة بين المعابد والمعماريات العتيقة الروحانية مثل المساجد والكنائس والقلاع المحتفظة بهيبتها الحجرية وروحها المعنوية التي هي مجموع أرواح أولئك البنّائين القدامى الذين شيدّوا هذه الفضاءات البنائية والتشكيلية بأمانة مهنية.
وقبل ذلك هم فنانون بالفطرة، لم يكونوا يعرفون تماماً علوم الهندسة والمعمار، ولكنهم، كانوا يحملون هذا الفن بأرواحهم النقية البيضاء قبل أن تزحف الحداثة وثقافة المادّة والسوق على الإنسان والحجر والشجر، فيتحوّل الكائن البشري الجميل إلى شيء، وكتلة مادية باردة.
الكتب العتيقة هي كل ذلك، والحياة بينها استعادة يومية لجوهر روحي وعاطفي مفقود، لا بل كلما عدت إلى كتبك تلك، تشعر بأنك تطهرت، وأنك نقيّ تماماً مثل رائحة الورق الذي تقدم في العمر مثلك، ولكنه لم يتآكل، والحبر عليه، ما زال علامة حياة.
عدت قبل نحو شهرين إلى الشارقة بحقيبة كتب من هذا النوع الذي أتوجه إليه الآن بكل هذا الحنين والتعريف الوجداني أعلاه، كما لو أن الكتب، نساء، ولهن كل هذا الاستحقاق من المديح الشعري، الذي هو مديح الورق.
وجدت كتاباً لجبرا إبراهيم جبرا صدر في بغداد في عام 1974 بعنوان «جواد سليم ونصب الحرية»، دراسة في آثاره وآرائه، وسأمتلئ بالغبطة الكلية وأنا أطالع الصور الموجودة في الكتاب، وأحسب الآن أن الكتاب بكل محتواه البحثي وبكل ما فيه من صور مفقود الآن تماماً في أي من المكتبات العربية، وشيئاً فشيئاً، سأعتبر أنني أمتلك كنزاً على شكل كتاب صدر عن مديرية الثقافة العامّة في بغداد قبل 49 عاماً، والسؤال العاطفي الذي نبت إلى جانب هذا الكنز هو.. أين يا ترى هي الآن تلك المديرية في بغداد.. وأين هو نصب الحرية؟؟
وجدت أيضاً كتاباً بعنوان (رؤيا أولى) للفنانة النحاتة منى السعودي صدر في عام 1972 عن مجلة (مواقف) في بيروت، وهو أيضاً تخطيطات ورسوم ولوحات لمنى السعودي تَحُفّ بها نصوص شعرية تأملية صوفية للفنانة.. ومرة ثانية.. أين (مواقف)، وأين النحاتة، بل، وأين بيروت الآن، وما الفرق بينها وبين بيروت 1972..
وجدت أيضاً كتاب صور ملوّنة للفنان (بهجوري).. عمر هذه التحفة نحو 30 عاماً، الصور نقية تماماً، صور ممتلئة إن جاز الوصف، تماماً. مثل امتلاء بهجوري الفكري والثقافي والجمالي، كما وجدت كتاباً آخر ممتلئاً بالصور بعنوان (الفن التشكيلي المعاصر في العراق للكاتب شوكت الربيعي 1972).
.. ذلك مقطع حنيني سريع في مديح الورق الذي قد يهرم.. ولكنه لا يموتْ.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2h2ek2we

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"