البحث عن جدار قيم

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

قلت للقلم: ما رأيك في ما يقوله المشكّكون في قدرة الحضارة الأوروبية، الغربية عموماً، على استكمال طريق طويل؟ معاذ الله، لا أقصدك أنت، لأنني عندئذ «أكاد أشك في نفسي لأني.. أكاد أشك فيك وأنت منّي»، أعني كبار مفكريهم، الأصلاء لا الدخلاء الذين «إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزئون».
قال: عليك بالاقتصاد في الاعتقاد، فلسانك يعجل بالحديث عن الحضارة، والحضارة جلبابها فضفاض على الجسم الغربي المتناحل المتهازل. ثب إلى رشدك. هل تكون الحضارة أمّ كل فرية، في كل قرية؟ القيم الحضارية الغربية طارت بها العنقاء، ولم يعد من كبار مضاربها من يعتنقها أو يعانقها. أمّا الاقتصادات فسل بها الخبراء، فسيكشفون لك العراء والهراء. لكن يحزّ في نفسي، أن أولئك الذين تصوّرناهم عمالقة عقل، لا يجوز إلا عنهم النقل، وقعوا في الجبّ الذي كانوا حفروه لنا منذ قرنين في الأقل. كأنما نوّمونا مغناطيسيّاً، فغطسنا إلى الأذقان، بل علا أمّ الرأس شبر ماء.
قلت: ويحك، ما قصة ذلك الجبّ؟ أجبْ، ولا تحجب ما وجب. قال: ما فعلوه بالأمّة، فعلته بهم الإمبراطورية. كنت أظنك اقتنيتَ من كتب الرصيف «كليلة ودمنة». لقد وسوس الفيل والحمار إلى بنات آوى الأوروبية بشنّ هجمات على ربوع الدبّ، فسعت إلى حتفها بظلفها. وكان لها معين يجلب لها الدفء في ليالي الشتاء الحزينة، فقطعاه فباتت الفكوك تصطك، والركب لا تنفك تحتك. ثم فاجآها بكرزة الكعكة: انسحب الفيل والحمار من المعمعة، قائليْن: دونكِ والدب، فاختاري مواصلة الحرب، أو الهرب.
قلت: أهذه هي القدوة الحضارية التي توهمنا أنها العصا السحرية التي ستنتشلنا من ظلمات التعثر التنموي، والتخلف العلمي؟ حين تستعيد مشاهد العالم العربي قبل قرنين أو في مطلع القرن العشرين، لا ترى بلاد الأمويين والعباسيين مهدودتين مهدومتين، ولا السودان محترقاً، ولا ليبيا كأنها في العصر الحجري، ولا العرب لا تجمعهم كلمة سواء، أو أيّ كلمة على السواء. ولن تجد اليوم ولو عربيّاً واحداً يعلم إلى أين المسير وإلى أين المصير. فإذا كانت رياح الخريف قد ذرت أوراق القيم التي خلناها حضاريةً، فما البديل للجيل بعد الجيل؟
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستنادية: تداعى جدار القيم، فلا سند غير أن تشيد الأمّة من قيمها جداراً تستند إليه.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/27mebt5w

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"