بدايات الكاتب ونضجه

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

كيف ينظر الأديب إلى بداياته في الكتابة، بعد أن تنضج تجربته وتتراكم خبراته، لا في الكتابة وحدها وإنما في الحياة نفسها، ويتطوّر وعيه، فهل يبلغ الأمر حدّ التنكر إلى تلك البدايات واعتبارها مجرد محاولات ساذجة لا تستحق الوقوف أمامها؟
محمود درويش قال شيئاً من هذا عن ديوانه الشعري الأول، الذي كان عنوانه، إن لم تخن الذاكرة، «عصافير بلا أجنحة»، وصدر في عام 1960، عندما كان الشاعر دون العشرين من عمره، لكن ما يصحّ على هذا الديوان لا يجوز اعتماده قاعدة للنظر إلى كل بدايات الأديب، أي أديب، فقط لأن تجربته أصبحت أعمق وأنضج.
الرواية الأشهر لغابرييل ماركيز، التي بسببها نال «نوبل» للآداب هي «مئة عام من العزلة»، لكنه يعتبر روايته «الجنرال في متاهته» الرواية الوحيدة التي يشعر إزاءها بارتياح مطلق، لأنه اشتغل على إعدادها أكثر من أي رواية أخرى، وتطلب منه الأمر ثلاث سنوات من الكتابة وثلاث سنوات من البحث كي يشرع في كتابتها، وأذكر أيضاً قولاً له في مقابلة صحفية أجريت معه بعد نيله «نوبل» إنه يفضل الرواية الصغيرة: «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» عليها، رغم أنها لم تنل الكثير من الشهرة.
حين تناول المفكر والناقد الراحل محمود أمين العالم رواية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف خاصة في جزئها الأول «التيه»، أتى على قول لمنيف نفسه، سمعه منه في ندوة عن الرواية العربية استضافتها تونس في عام 1980، مفاده أن كل ما كتبه من روايات قبل «مدن الملح» كان بمثابة تمارين تؤهله لكتابة هذه الرواية. ومع الإقرار بأن شهادة أي أديب على أدبه لها أهمية خاصة، كونها تسلط الضوء على زوايا في هذه التجربة لا يراها النقّاد ولا القرّاء، لكن هذه الشهادة لست كافية وحدها للإحاطة بكل جوانب هذه التجربة، ولو أخذنا منيف مثالاً فإن ما دعاه بالتمارين السابقة ل«مدن الملح» بينها أعمال مهمة وجديرة بالوقوف أمامها.
محمود أمين العالم نفسه تناول في دراسة له رواية منيف «شرق المتوسط» الصادرة في عام 1975، حسب ما تيسّر لنا من معلومات لا نجزم بدقتها، ولكنها سابقة ل«مدن الملح» على كل حال، ومن سياق تلك الدراسة نقف على أهمية تلك الرواية، وهو أمر لمسه من قرؤوها، ووجب التنويه إلى أن العالم جمع في دراسته تلك بين «شرق المتوسط» ورواية «الآن هنا» لمنيف، كونهما جمعتا بين الموضوع نفسه، وهو القمع السياسي، مع ملاحظة أن «الآن هنا» صدرت مطلع التسعينات، أي بعد «مدن الملح»، كأنّ منيف عاد فيها إلى «التمارين» لكن برؤية أنضج وأعمق.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/bdhp6h2k

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"