تجاذبات النقد الدولي

21:48 مساء
قراءة 4 دقائق

«مودرن ديبلوماسي»

تعتبر التجارة جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، يمتد تاريخها بين الحضارات إلى آلاف السنين. ووفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، ارتفعت التجارة العالمية بنسبة 25% في عام 2022 إلى نحو 32 تريليون دولار، وهو نمو كبير من 28.5 تريليون دولار لعام 2021.

ويسلط هذا التطور الضوء على أهمية التجارة في ضوء الاقتصاد العالمي السريع النمو. بالتالي، فإن أي شكل من أشكال تعطيل تدفق السلع والخدمات يمكن أن يعوق بسهولة تنمية العديد من البلدان، وخاصة النامية منها، الأمر الذي استدعى ضرورة وجود منظمة عالمية لتسهيل اتفاقيات التجارة الدولية بين الدول، فكانت منظمة التجارة العالمية التي تأسست عام 1995.

ولكن في ظل التغيرات والتهديدات الجديدة الناشئة التي يشهدها النظام التجاري العالمي في السنوات الماضية، يجب صياغة المبادئ التوجيهية اللازمة للمنظمة للحفاظ على قدرتها على ترسيخ المنافسة التجارية الحرة والعادلة بين البلدان. وإحدى هذه المشاكل التي لم يتم تناولها بشكل صحيح من قبل منظمة التجارة العالمية هي تلاعب البلدان المحتمل بسياسات العملة وأسعار الصرف من أجل تعزيز صادراتها.

ولفهم الأثر الضار لمثل هذه الممارسات، يجب أن نعي بوضوح الماهية أو السلوك الذي بموجبه يحدث التلاعب بالعملة، وهو عندما تقوم دولة ما بإضعاف قيمة عملتها عمداً، أو إبقائها ضعيفة من أجل الحصول على مزايا تجارية كبيرة وغير عادلة على الدول الأخرى. فتخفيض قيمة العملة يُمكن الشركات والمصانع المحلية العاملة من تقديم منتجاتها وخدماتها بأسعار أقل بالعملات الأجنبية.

إن موضوع التلاعب بالعملة ليس شيئاً خاصاً بالعصر الحديث، فقبل الكساد الكبير، انخرطت البلدان في جميع أنحاء العالم في خفض قيمة عملاتها بشكل متعمد للحصول على مزية تجارية على بعضها البعض. وكان هذا التلاعب محل جدل ساخن في السياسات الأمريكية الأخيرة، وخاصة في ظل إدارة ترامب التي اتهمت الصين باتباع سياسة التلاعب بالعملة من أجل تعزيز قيمة تجارتها على حساب الولايات المتحدة.

وبين الحقبتين، أدركت دول العالم في نهاية المطاف التأثير الضار لمثل هذه المساعي، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تمت الموافقة على تأسيس صندوق النقد الدولي لضمان استقرار نظام سعر الصرف العالمي. ومع ذلك، لا يزال الصندوق يعاني مزيداً من الضعف في جهوده بسبب الافتقار إلى التسوية الفعالة للنزاعات وآليات الامتثال والتنفيذ داخل المنظمة. فكانت الحاجة لوجود منظمة التجارة العالمية بوصفها مؤسسة تنظيمية وتنفيذية محتملة لمنع التلاعب بالعملة.

في المقابل، جادل كثيرون بأن منظمة التجارة العالمية لا ينبغي أن تتعاطى مع السياسات النقدية للدول، لأنها من اختصاص صندوق النقد، خصوصاً وأن النقاش لا يزال محتدماً حول ما إذا كانت ممارسة التلاعب بالعملة تشكل خرقاً لاتفاقيات التجارة الدولية أم لا. ومع ذلك، هناك الكثير من الأدلة التاريخية الواضحة على الخطر الذي تشكله مثل هذه الممارسات على الاقتصاد العالمي إذا ما تُركت دون رادع، خصوصاً في ظل افتقار صندوق النقد الدولي لآليات تسوية المنازعات والإنفاذ.

وفي عام 1996 اتفقت منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي على التعاون والتشاور مع بعضهما البعض لتحقيق قدر أكبر من التماسك في السياسات الاقتصادية العالمية. ومنحت هذه الاتفاقية المؤسستين القدرة على حل المسائل المتعلقة بالنظام النقدي الدولي. لكن مع ذلك، لم تشمل الاتفاقية آليات تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، ما جعلها قاصرة في التعاطي مع الحواجز القضائية لمسائل التلاعب بالعملة. الأمر الذي يتطلب تغييراً جذرياً وتحسيناً في العلاقة بين المنظمتين، والدعوة لمزيد من التكامل التشغيلي والتعاون بينهما للحفاظ على نظام نقدي دولي مستقر. وستحتاج مثل هذه الإصلاحات إلى منح منظمة التجارة العالمية الولاية القضائية على النزاعات المتعلقة بالمشاكل التجارية والنقدية داخل صندوق النقد الدولي.

في المقابل، هناك تحديات كبيرة تعترض مسألة منح منظمة التجارة العالمية السلطة على القضايا المتعلقة بالسياسات النقدية. فبالنسبة لبعض الدول، تعتبر السيادة النقدية الرامية لتخفيض قيمة عملاتها أمراً حيوياً للاقتصاد والتنمية، وتمكنها من حماية صناعاتها المحلية، وجذب الاستثمار الأجنبي، وكذلك التأثير على أسعار السوق للسلع والخدمات المصدرة. لكن من غير المرجح أن تختار دولة ما التخلي عن سيادتها النقدية، وهذه مشكلة كبيرة، لأن منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي سيتطلبان دعم المجتمع الدولي لتنفيذ أي شكل من أشكال الإصلاح. ولا بد من معالجة هذا العائق الرئيسي لتعزيز علاقة التعاون بين المؤسستين.

إن افتقار صندوق النقد الدولي لسياسة فعالة تدير أي نزاع محتمل بين الدول يُلقي بظلال من الشك حول قدرته على حلها فردياً. وهنا يأتي دور منظمة التجارة العالمية في مساعدة الصندوق على تجاوز مثل هذه المسائل، وخاصة تلك المتعلقة بالتجارة الدولية. ومع ذلك، لا تزال هناك عوائق كبيرة أمام هذا التعاون، وسيكون من الضروري إجراء إصلاح حقيقي وإعادة هيكلة العلاقة التعاونية بين الحليفين على الجبهة النقدية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yhkvewwj

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"