عادي

ثقافة الحرب والسلام «الديمقراطي»

22:59 مساء
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن
يذكّرنا الموقف السلبي المتخاذل للمؤسسات الدولية والأممية، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، تجاه حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة، بفشل عصبة الأمم المتحدة طوال عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، في التصدِّي للقوى النازية والفاشية، والتي شكلَّت خطراً كبيراً على السلم والأمن الدوليين وقتها، وهو الفشل الذي دفع العالم كله ضريبته من الدماء والموارد والأحقاد وتغيير الخرائط، وبنشوب الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، ودمار مدن وخراب صناعات ومدنية.

كما تذكّرنا ثقافة الانتقام والثأر البربري وأسلوب الفعل العسكري الوحشي والعنف المفرط والمبالغ فيه، والذي مارسته قوة الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بذلك العنف المفرط الذي ردَّت فيه النمسا على اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانتس فرديناند ولي العهد في يونيو 1914، أثناء زيارته وزوجته مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، حيث قام شاب صربي، واسمه غافريلو برانسيب، وعمره نحو 19 عاماً، بتنفيذ عملية الاغتيال، تعبيراً عن رفضه لممارسات السلطات النمساوية، باضطهاد الشعوب السلافية، وطمس هويتها ولغتها. وكانت نتيجة عملية الاغتيال أن أعلنت النمسا الحرب على صربيا في الشهر التالي، وتفاعلت معها آليات التحالفات الأوروبية، وبدأت الحرب العالمية الأولى، والتي استمرت أكثر من أربع سنوات، في البر والبحر والجو، ودخلت أمريكا هذه الحرب في إبريل 1917، وكانت النتيجة خسائر فادحة في الأرواح البشرية والموارد، ونهاية للإمبراطورية النمساوية - المجرية، وتوقيع معاهدات بين المتحاربين فككت أنظمة إمبراطورية، وسقطت أسر حاكمة، وتغيرت خرائط وحدود ترابية، وقامت الثورة الروسية التي طبقت أول نظام اشتراكي في العالم، وتقوضت بعدها الإمبراطورية أو الخلافة العثمانية، وصدرت وعود وترتيبات ما زال العالم يدفع ثمن مساوئها وأخطائها، ومن بينها: «معاهدة فرساي»، و«وعد بلفور» المشؤوم الذي أثمر خطيئة تاريخية ألحقت ضرراً فادحاً بأمن الشرق الأوسط واستقراره.

كما تذكرنا ثقافة الثأر والانتقام الأهوج حينما ردَّت أمريكا بعنف عسكري مفرط وتدميري إثر الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 في نيويورك، وقامت باحتلال أفغانستان والعراق، وبمبررات واهية وكاذبة، وأنتج هذا الاحتلال عنفاً وإرهاباً غير مسبوق، وولّد تنظيمات متطرفة وأجيالاً جديدة تسعى إلى الانتقام، ولم يعالج هذا الانتقام العنيف والسياسات الحمقاء أسباب هذا العنف، رغم الأثمان الباهظة التي دفعتها شعوب وأوطان وموارد ومستقبل.

حروب تلد حروباً، وتشيع الكراهية، وتهدر الموارد وتنتهك حق الإنسان في الحياة والكرامة الإنسانية.

تسري رعدة في أوصال شعوب العالم، يُخيفها هاجس حروب وحشية، يشنها حمقى ومجانين، ومرضى بغرور القوة وبنزعات الهيمنة والاستعلاء، ولا يتورعون حتى عن التلويح بالنووي والفناء، ولا يعطون فرصة واحدة لإقرار سلام عادل ومستدام، وصنعه وحفظه.

شاركت في مؤتمر فكري، عقد بالقاهرة قبل أسابيع، ونظَّمته مؤسسة المرحوم عبدالعزيز البابطين الثقافية، بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة في مصر، حول مفهوم «السلام العادل والتنمية» وتساءلت عن أسباب غياب مقاربات لتعلم السلام بوسائل وقائية رئيسية للحد من الحروب والعنف، وتحقيق تآزر بين جدول أعمال التنمية، وجدول أعمال استدامة السلام، الساعي لضمان القانون والعدالة.

وقدمت نقداً لنظرية «السلام الديمقراطي» التي وردت في أحد أبحاث المؤتمر، ومؤداها «أن الحكومات الديمقراطية والشعوب الديمقراطية هي الأكثر اتجاهاً نحو السلام والتعايش العالمي»!!

واستحضرت في تعليقي على خطأ هذه النظرية عدداً من النماذج في وقتنا الراهن، مثل الحرب الأوكرانية التي دخلت عامها الثالث، وكيف أن «ديمقراطيات الغرب» والمؤسسات الأممية لم تعط فرصة واحدة للسلام، ولوقف هذه الحرب الشرسة والممتدة والمكلفة بشرياً ومادياً ولها تداعياتها الخطيرة على الخرائط والتحولات الجيوسياسية الأوروبية، والتسلح وانتفاء الحياد.. إلخ، بل عملت هذه «الديمقراطيات» على تأجيج الحلول العسكرية.

كما استحضرت اتفاقيات دولية سابقة، بدءاً من سلام «وستفاليا» عام 1648، ومروراً بمؤتمر باريس للسلام عام 1919، لاقتسام غنائم الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى اتفاقيات سلمية غير عادلة، بصورة أو بأخرى، يُملي فيها القوي على الضعيف بنودها.

........

تأكل الحروب روح الإنسان، وتغذي ضروب الكراهية الجماعية. وثقافة الحروب هي ثقافة الموت المشترك، والضمان الوحيد لأمن الإنسان، هو ألّا يكون له أعداء يكرهونه إلى درجة الانتحار لإيذائه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/fv754xb6

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"