عادي
الذكاء الاجتماعي

تَغافل

01:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
1
سالم بن ارحمه الشويهي

د. سالم بن ارحمه
التغافل فن من فنون الحياة، ومهارة من مهارات الذكاء الاجتماعي، وهو يعني: التظاهر بعدم الانتباه لزلات وهفوات الآخرين، والعفو عن أخطائهم دون إشعارهم بارتكابهم لها. ولا يعتبر التغافل سذاجة أو ضعفاً، بل هو الذكاء بعينه لحل ومواجهة المشكلات. ومع تعقد الحياة يكون عليك لزاماً وليس نافلة أن تتغافل، فستجد في الحياة تصرفات قد تستفزك وأنت بين خيارين: إما أن تستجيب وتتمادى معها ولا تعرف كيف ستكون عواقبها وغالباً تكون وخيمة، وإما أن تتغافل وتتجاهل وتكون عاقبتها السلامة والعافية.

منطلق التعامل بواقعية ومعرفة بطبيعة الناس التي جبلوا عليها، ف «كل بني آدم خطَّاء»، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، يقتضي أن نتغافل عن تلك الأخطاء، ولعل استحضار عدم كمال الناس وما يعتريهم من نقص هو خطوة في طريق السعادة، فالعلاقات المميزة لا تعني أن أحد الطرفين لم يجد يوماً من صاحبه ما يكره، بل تعني أنه قرر التغافل عن كثير من الأحداث، فما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإن الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة، تعب وأتعب، والعاقل الذكي من لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة لتصفو له عشرته.

إن أغلب المشكلات التي تحصل بين الأفراد نشأت من التدقيق، ومن فوائد التغافل أنه يسد باب النكد والشقاء على صاحبه. قال علي، رضي الله عنه: «من لم يتغافل تنغصت عيشته»، فالذي يقف عند كل كلمة ويدقق على كل حركة ولا يسكت عن كل خطأ ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة هو أكثر الناس شقاء وتعاسة. ولذا قال الأعمش: «التغافل يطفئ شراً كثيراً». ومن فوائد التغافل دوام المودة والعشرة، فكم من علاقات فسدت بسبب خطأ بسيط، وكم من بيت تهدم بسبب تتبع الأخطاء والعثرات، فإذا ما وضعت الحياة تحت المجهر، فستكون أبعد ما يمكن عن الهدوء والطمأنينة.

ولو وضعنا المجهر على الماء الذي نشربه لرأينا ما لا نرتضيه، ولما استسغناه، فبعض الكلمات والمواقف نبلعها مثل الدواء لا نستسيغه، ولكن فيه شفاء وراحة

لولا التغافل لتبخرت العلاقات بين الناس، لذا كان هذا الخلق من أساسيات دوام العلاقات وأحد قوانينها، فلن تدوم علاقة بالمحاسبة والنظرة الفاحصة.

لَولا التَّغافُلُ عَن أشياءَ نَعرِفُها

ما طابَ عَيشٌ ولا دامَت مَوَدَّات

فليس من العقل أن تكون دائماً فطناً لمّاحاً لكل شاردة وواردة، ولكن العقل والحكمة أنك تتعامى وتتغافل، وكانت العرب تردِّدُ كثيراً هذا البيت:

لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيدٍ فِي قَوْمِهِ

لِكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي

نشهد في كل يوم عشرات المواقف السلبية، سواء في الطريق أو السوق أو العمل أو حتى في المنزل، وربما تقع مشاكل كثيرة في حياتك بسبب مواقف تافهة تشعل شرارة الغضب والشحناء في القلوب.‏ وإذا تعلمت التجاهل، فقد اجتزت نصف مشاكل الحياة.

يذكر أن امرأة توفي زوجها، ولما انقضت أيام العزاء اجتمع عندها أهل زوجها ليخبروها بموضوع مهم، واحتاروا كيف يتحدثون معها عنه، فلما رأت منهم التردد والحيرة بادرتهم وقالت: أعلم أن ابنكم المرحوم كان متزوجاً عليَّ بزوجة أخرى! فقال والد الزوج باستغراب: وأنت تعلمين بزواجه هذه السنين وكأن شيئاً لم يكن؟! فقالت: وماذا يسعني أن أفعل لو لم أتغافل وواجهته بزواجه؟ كنا سنختلف وقد ننفصل، وأفضل الاحتمالات سيقسم بيني وبين زوجته الأخرى في المبيت والنفقة.. وإذا تشاجرنا وغضب مني تركني وذهب إليها، ولما تغافلت، كان كل الأيام معي، ودائماً يسعى لرضاي في كل شيء، في المبيت والنفقة، وكثيراً ما يتودد لي ويشتري لي الهدايا، خوفاً من أن أشعر بشيء، فأصبحت بعد زواجه من الثانية مدللة.

هذا التغافل وبعض نتائجه لحياة هانئة، فتَغافل بعدد شعر رأسك، تَغافل بعدد أنفاسك. فإن لم تُتقن فن التغافل ستخسر الكثير، وأولّه عافيتك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mvz2xkfc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"