عادي

«التقفية».. الشعر دليل العربية

23:23 مساء
قراءة 3 دقائق

الشارقة: جاكاتي الشيخ

رغم أن الكثيرين عبر التاريخ ظلوا يعتبرون أن معجم «الصحاح» للجوهري هو أول معجم رُتّب على نظام التقفية، فإن لغوياً آخر يُدعى البندنيجي سبقه لذلك النظام، حين ألف كتابه «التقفية»، وتوفي قبل ولادة الجوهري بأكثر من 40 سنة، ولكن شهرة الجوهري وانتشار كتابه منحاه ذلك السبق.

البندنيجي هو أبو بشر اليمان بن أبي اليمان (200-284ه)، شاعر ولغوي عربي، فارسي الأصل، ينسب إلى «البندنيجين»، وهي بلدة بمحافظة ديالي في العراق تعرف الآن ب«مَندلي»، وُلد ضريراً، ونشأ بمسقط رأسه «البندنيجين»، وكان بها أبو الحسن علي بن المغيرة الأثرم، صاحب أبي عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي، ورَاوِيةُ كتبهما وغيرهما، فتتلمذ عليه البندنيجي وحفظ منه علماً وأدباً وأشعاراً كثيرة، حيث كانت لديه ذاكرة قوية للحفظ، ويقول عن نفسه: «حفظت في مجلس واحد مائة وخمسين بيتاً من الشعر بغريبه».

كان والده غنيّاً فخلّف له بساتين ومزارع كثيرة، فباعها وقرَّر أن ينفق ما جناه منها في طلب العلم، فرحل إلى بغداد والبصرة وسامراء، ولقي العديد من العلماء وأخذ منهم، مثل: العالم الكوفي محمد بن زياد الأعرابي، ويعقوب بن إسحاق بن السكيت، وأبو إسحاق الزيادي، وأبو الفضل الرياشي، فقرأ عليهم من حفظه الكثير من الكتب.

ألف العديد من الكتب، أهمها: «التقفية» المعروف ب«التقفية في اللغة»، و«معاني الشعر»، و«العروض»، كما كان شاعراً مُجيداً، ومن رقيق شعره أنه مر يوماً بباب الطاق فسمع صوت قُمرية من حانوت خَبّاز، فقال لقائده: مل بي إليه، فقال: يا خباز أتبيع هذه؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بعشرة دراهم، ففتح منديله وعد له الدراهم ثم أخذ الحمامة فأطلقها وأنشأ يقول:

نَاحتْ مُطوَّقةٌ ببابِ الطاقِ

فَجَرت سوابق دمعيَ المهراقِ

حَنّت إلى أرض الحجاز بحرقة

تسبي فؤاد الهائم المشتاق

حتى يقول:

إنِّي سمعت حنينها فابتعتُها

وعلى الحمامة جدتُ بالإطلاق

بي مثل ما بكِ يا حمامةُ فاسألي

من فكَّ أسرَكِ أن يَفُك وثاقِي

معجم «التقفية» الذي عرف ب«التقفية في اللغة» كتاب نفيس ألفه بن أبي اليمان البندنيجي، وَسَمَّاهُ بذلك لأنه مُؤَلَّفٌ على نظام التقفية (أي البداية من الحروف الأخيرة من الألفاظ)، على منوال التقفية الشعرية، فقد نظر في كلام العرب فوجده قائماً على الحروف الثمانية والعشرين الموسومة ب(أ، ب، ت، ث)، فهي محيطة بالكلام، وما من كلمة إلا ولها نهاية بحرف من هذه الحروف، فأراد أن يحصر في ذلك من اللغة العربية ما قدر عليه وبلغه حِفظه، في القرآن والشعر وغير ذلك من صنوف الكلام، لإدراكه حاجة أهل المعرفة والأدب إليه، فجمع مادة كثيرة، ثم رأى أنه لو حصر ذلك في تأليف غير متناسق، ثم جاءت كلمة غريبة يحتاج الشخص إلى معرفتها من هذا الكتاب لصَعُب عليه إدراكها، لسعة الكلام وكثرته، فرتبَّه ترتيباً متناسقاً متتابعاً ليَسهل على الباحث فيه الحصول على حاجته منه.

يقول في مقدمة المعجم: «ونظرنا في نهاية الكلام فجمعنا إلى كل كلمة ما يشاكلها؛ ما نهايتها كنهاية الأول قبلها من الحروف الثمانية والعشرين، ثم جعلنا ذلك أبواباً على عدد الحروف، فإذا جاءت الكلمة مما يحتاج إلى معرفته من الكتاب نظرتَ إلى آخرها ما هو من هذه الحروف؟ فطلبتَه في ذلك الباب الذي هي منه، فإنه يسهل معرفتها إن شاء الله».

ترتيب

لم يركز المؤلف على جذور الكلمات وأصولها، بل رتب الكتاب حسب أواخر الكلمات، بغض النظر عن كونها حروفاً أصلية أو زائدة، مُركّزاً على قوافي الشعر وكيفية ترتيبها هجائيّاً، ولذلك لم يرتب الكلمات داخل القافية الواحدة، وإنما اكتفى بتجميعها تحت الحرف الأخير (حرف الروي في القافية)، مع الحروف التي تسبقه إذا كان التزامها ضروريّاً في القافية، وهو ما جعل الباب الواحد يأتي في عدة فروع هي «القوافي» داخل الحرف الواحد. ويبدو من خلال هذا الترتيب أن هدف المؤلف لفظي بَحت، بحيث يقتصر على حصر القوافي المتماثلة، فقد أورد الكثير من الكلمات دون توضيح معانيها، لشيوعها أحياناً، كما كرَّر العديد منها في مواضع مختلفة بحسب ما يلحقها من زوائد تغير القافية.

ساعدت سهولة التقفية التي اعتمدها البندنيجي على انتشار كتابه بين الكتاب والشعراء والخطباء، الذين كانوا يضنُّون به على الآخرين، لما وجدوا فيه من ثروة لغوية تساعدهم في تدبيج قصائدهم، وسجع نثرهم وخطبهم، ولكنه كان صعباً على من يريد البحث بسرعة عن معاني الكلمات، أو ضبطها، وهو ربما ما أثّر في انتشاره بين الناس، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يُدرج بين أمهات الكتب التي كان لها أثر كبير في ضبط معاني مفردات اللغة العربية وحفظها.

قام بتحقيقه الدكتور خليل إبراهيم العطية، وطبع ونشر في العراق بمساعدة وزارة الأوقاف عام 1976م باسم «التقفية في اللغة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/489k8w6d

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"