أصل الحضارة

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.باسمة يونس

عندما تطورت حركة الترجمة في العصر العباسي منذ منتصف القرن الثامن إلى أواخر القرن العاشر، كانت تؤسس لحضارة عظيمة بذلت جهداً كبيراً ومسؤولاً لرفدها بمعارف منقولة من اليونانية والبهلوية والسنسكريتية والسريانية إلى العربية.

فلا شك بأن ترجمة العلوم والمعارف من أكثر من لغة وراء ازدهار العلوم وتشكيل التداخل الحضاري وفتح خرائط جديدة في مجالات الثقافة وتطوير المعرفة العلمية عندما تأتي من مصادرها الأساسية مثل، الهلنستية واليونانية القديمة.

ونجحت الترجمة في دعم البنية التحتية للتطور البشري بتركيزها على أعمال العلماء الطبية والفلسفية وغيرها من النصوص اليونانية العلمانية الأخرى، وفي وقت لاحق دخلت الثقافة الغربية إلى الترجمات العربية بشكل واسع.

وكان «بيت الحكمة» كما هو معروف مركزاً فكرياً رئيسياً في عهد العباسيين وعنصراً رئيسياً في حركة الترجمة التي ازدهرت في ذلك العصر المسمى بالعصر الذهبي الإسلامي، وحصلت الترجمة على دعم الخلفاء ومن أبرزهم المأمون الذي كان يرسل العلماء إلى جميع أنحاء العالم المتحضر لترجمة الأعمال العلمية والأدبية المختلفة.

وامتلأت المكتبة حينها بالعديد من المؤلفين والمترجمين المختلفين الذين تخصصت كل مجموعة منهم بترجمة نوع معين من العلوم، فمجموعة تعمل على ترجمة الأعمال الهندسية والرياضية والفلسفية والحركة السماوية والطب، وغيرهم ترجموا الكتب الأدبية والدينية المختلفة من أهم الحضارات اليونانية والفارسية والهندية، فولد على أيديهم مترجمون جدد ووضعت على رفوف المكتبة مؤلفات مكتوبة بأيدي خطاطين مهرة ومجلدة بشكل جيد.

وكان أشهر المترجمين المعروفين في ذلك العصر حنين بن إسحاق لإتقانه جميع اللغات وتخصصه في المجال الطبي، وتعلم الترجمة على يديه ابنه إسحاق حنين الذي تخصص في الترجمة الفلسفية، وابن أخيه حبش وغيرهم ليترجموا أكثر من 95 قطعة لجالينوس، ونحو 15 قطعة لأبقراط.

واعتمد العلماء المسلمون على ترجماتهم لاحقاً، واعتبروها البنية التحتية لتدريب وتعليم مزيد من المترجمين الذين أصبحوا قادرين على الترجمة مباشرة من الأصول اليونانية إلى العربية، فأسهموا بدورهم في الترجمة وقدموا للعالم أفضل الترجمات التي أسست لحضارة نستطيع القول: إنها كانت قادرة على ربط المجتمعات والشعوب التي كانت معزولة سابقاً، وتنشيط طرق التجارة والزراعة، وتحسين الثروات المادية مع ارتفاع معدلات معرفة القراءة والكتابة بين الناس وتأسيس بنية تحتية تعليمية أكبر.

وشهد العصر العباسي ترجمة النصوص المركزية للدين الإسلامي والقرآن الكريم، وحظيت حركة الترجمة في العالم العربي بدعم كبير في ظل الحكم الإسلامي، وأدت إلى ترجمة المواد إلى العربية من لغات مختلفة كالفارسية الوسطى إضافة إلى حركة الترجمة التي قام بها البرامكة، واستخدام الخليفة العباسي الثاني المنصور الترجمة كأيديولوجية، لتدعيم امبراطوريته الناشئة كما ذكر في كتب التاريخ.

ولا يتوقف أمر ضعف الترجمة اليوم على قلتها أو مركزية اللغات التي تتم الترجمة إليها، ولكن على تقييد الترجمة التي انتقلت من كونها تدريباً إلى مجرد دروس نظرية في المناهج، وغياب خطة تدريب عملي وواقعي للمترجمين الجدد على أيدي مترجمين محترفين، وبطء تطوير البنية التحتية لمهنة الترجمة لرفع مستواها المادي والمعنوي، وعدم تدقيق الناشرين في اختيار الأعمال التي تتم ترجمتها وحصرها في الترجمات الأدبية الإبداعية أو كتب تنمية الذات التي تزدحم بها المكتبات.

نحن اليوم في أمس الحاجة إلى حركة ترجمة واسعة تستكشف مستجدات العلم والمؤلفات الأصلية للمفكرين من مختلف أرجاء العالم، فلا نكتفي بترجمة ما يصلنا من كتب مترجمة بلغة واحدة، بل ندرب مترجمين بلغات عدة، ليأتوا لنا بالعلوم والمعلومات الصحيحة من أصولها ومن أمهات كتب العالم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycx3n4ck

عن الكاتب

​كاتبة ومستشارة في تنمية المعرفة. حاصلة على الدكتوراه في القيادة في مجال إدارة وتنمية المواهب وعضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ورابطة أديبات الإمارات. أصدرت عدة مجموعات في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرح والبرامج الثقافية والأفلام القصيرة وحصلت على عدة جوائز ثقافية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"