عادي
«طريق التسامح» الذي يتبناه ماكرون يمكنه نزع فتيل الأزمة

كاليدونيا الجديدة.. تحدٍّ فرنسي في «بلاد النيكل»

00:15 صباحا
قراءة 7 دقائق
جانب من تظاهرات كاليدونيا الجديدة «رئيسية 1»
سكان كاليدونيا الجديدة
خريطة توضح المكان الاستراتيجي لجزيرة كاليدونيا «رئيسية2»
الرئيس ماكرون في مطار نوميا عاصمة كاليدونيا الجديدة
الرئيس ماكرون في زيارة لجزيرة كاليدونيا الجديدة

د. أيمن سمير

فرنسا سلسلة من التحديات للحفاظ على نفوذها في الخارج، فبعد خروج الجيوش الفرنسية من مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتراجع الحضور الفرنسي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، تواجه فرنسا تحدياً جديداً، وبعيداً تماماً عن حدودها، بخاصة في جزيرة «كاليدونيا الجديدة» التي تقع شرق باريس بنحو 16 ألف كم، في المحيط الهادئ، ويتمثل التحدي في التظاهرات التي اندلعت منذ 13 مايو/ أيار العام الماضي، ضد القرار الذي وافقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية في 15 مايو الماضي، بإضافة نحو 25 ألفاً من المهاجرين الفرنسيين، والأوروبيين، والآسيويين، إلى جداول الانتخابات، ما يعتبره السكان الأصليين «الكاناك» بمثابة تقزيم لدورهم السياسي والاقتصادي في الجزيرة التي تبلغ مساحتها أكثر من 19 ألف كم.

ينظر السكان الأصليين «الكاناك»، إلى هذه الخطوة باعتبارها تمنع استقلال الجزيرة عن باريس مستقبلاً، بعد أن أصبحت كاليدونيا الجديدة مستعمرة فرنسية منذ عام 1853 في عهد نابليون الثالث، وحصل جميع مواطنيها على الجنسية الفرنسية عام 1953، وكان هناك توجه للإعلان عن استقلال الجزيرة في الفترة من 2015 وحتى 2019، لكن استفتاء جرى عام 2021 رفض فيه نحو 96.5% من المشاركين التخلي عن الجنسية الفرنسية، وطالبوا بالبقاء تحت العلم الفرنسي، ومنذ الإعلان عن نتيجة هذا الاستفتاء بدأت موجات متتالية من الغضب بين السكان الأصليين الذين ينظرون لنتائج الاستفتاءات التي أبقت الجزيرة تحت السيادة الفرنسية بأنها لا تعبر عن حقيقة توجهات السكان، بل تعبّر عن المهاجرين الأوروبيين والآسيويين، ولا تعبّر عن «الكاناك».

تجدد هذه التظاهرات دفع باريس لإرسال نحو 1000 جندي فرنسي جديد لتعزيز قوة موجودة في الجزيرة قوامها نحو 3000 جندي من الجيش والشرطة في كاليدونيا الجديدة، لكن استمرار هذه التظاهرات بات يطرح سلسلة من الأسئلة حول مستقبل الوجود الفرنسي في منطقة المحيط الهادئ.. وهل تدفع دول في جنوب شرق آسيا لإخراج باريس من ممتلكاتها في منطقة الأوقيانوس؟ وهل هناك علاقة بين الاحتياطات الضخمة من النيكل في كاليدونيا الجديدة وتأليب المشاعر الشعبية ضد فرنسا؟

  • جزيرة عقابية

نظراً للمسافة البعيدة بين فرنسا وجزيرة كاليدونيا استخدمتها باريس على مدار عقود طويلة من الزمن «كجزيرة عقابية» تنفي فيها عتاة المجرمين وكبار المعارضين السياسيين، وكانت باريس وقتها تنتهج نهج غيرها من العواصم الأوروبية التي لديها مستعمرات وراء البحار، وأصبحت كاليدونيا أشهر مكان في العالم لنفي السجناء والسياسيين عام 1897، عندما جرى نفي نحو 22 ألف سجين ومجرم، وهو أكبر عدد استضافته «جزيرة عقابية» في تاريخ البشرية منهم نحو 4200 سجين سياسي، في الفترة من 1873 حتى عام 1900، لكن في الوقت نفسه سعت فرنسا منذ أيام نابليون الثالث لتشجيع الأوروبيين على الهجرة إلى جزيرة كاليدونيا على غرار الهجرة الأوروبية إلى جنوب إفريقيا، لكنها فشلت في تحقيق ذلك لأسباب كثيرة، منها البعد الجغرافي للجزيرة عن أوروبا، كما أن الأراضي السهلية والقابلة للزراعة قليلة جداً، إضافة إلى صعوبة الحياة في الجزيرة، ما أضعف جاذبيتها للمهاجرين من أوروبا.

  • مكانة جيوسياسية

تحظى كاليدونيا الجديدة بمكانة جيوسياسية رفيعة تجعل من الصعوبة بمكان على صانع القرار الفرنسي أن يترك الجزيرة للاستقلال بسهولة، لأن كاليدونيا الجديدة تقع في مكان استراتيجي غرب المحيط الهادئ، وإلى الشرق من أستراليا بنحو 1240 كم، ما جعلها قاعدة رئيسية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كانت مقراً لنحو 50 ألف جندي أمريكي، في الوقت الذي لم يكن عدد سكان الجزيرة يزيد على 60 ألف نسمة.

وتعززت القيمة الجيوسياسية لجزيرة كاليدونيا الجديدة عندما رفضت، بشكل قاطع، دعم حكومة فيشي الموالية لألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي دفع باريس لمكافأة سكان كاليدونيا بمنح الجنسية الفرنسية لكل سكان الجزيرة، ومن مختلف الأعراق عام 1953، ومع زيادة التنافس «الجيو-سياسي» بين الصين من جانب، والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، ومنهم فرنسا، من جانب آخر، باتت جزيرة كاليدونيا تحظى بمكانة جيوسياسية رفيعة لدى مخططي الاستراتيجية الفرنسية في جنوب غرب المحيط الهادئ، ولهذا زادت فرنسا من قواتها ومعداتها ليس فقط لمواجهة التمرد والتظاهرات على النفوذ الفرنسي في الجزيرة، بل لتعزيز الوجود الفرنسي في المحيط الهادئ، أمام ما تصفه باريس بتعاظم القدرات العسكرية للصين، لذلك نشرت فرنسا 5 طائرات استطلاع جديدة من طراز «فالكون»، إضافة إلى طائرات نقل عملاقة من طراز «ايه 400إم»، فضلاً عن التوسع في نشر عدد آخر من طائرات الرافال متعددة المهام.

  • خريطة طريق نحو الاستقلال

رغم تمثيل كاليدونيا في البرلمان الفرنسي بنائبين في مجلس النواب، واإثنين آخرين في الجمعية الوطنية، وحصول كل سكان الجزيرة على «الجنسية الفرنسية»، وبالرغم من إنفاق فرنسا ما يساوي نصف مليار دولار سنوياً على تحسين الخدمات والأمن في الجزيرة إلا أنه ومنذ نهاية الستينات في القرن الماضي، كانت كاليدونيا تشهد حالات من عدم الاستقرار، وكان يتم احتواؤها بشكل دائم من الجيش الفرنسي، وحكومة كاليدونيا الموالية لفرنسا، وبداية من عام 1976 شهدت كاليدونيا تظاهرات متواصلة كان أكثرها دموية التي اندلعت عام 1988، ما قاد في النهاية لتوقيع «اتفاقية ماتينيون» في 26 يونيو/ حزيران 1988، وعندما لم تحقق هذه الاتفاقية الاستقرار المنشود، واستمرت مطالبة السكان الأصليين بالاستقلال عن فرنسا، تم التوقيع على «اتفاقية نوميا» في 5 مايو/ أيار 1988، والتي رسمت «خريطة طريق» نحو الاستقلال عندما نصت على فترة انتقالية مدتها 20 عاماً، وبعدها يتم الاستفتاء على الاستقلال، وتطبيقاً لهذا المعيار وضعت الأمم المتحدة من خلال «لجنة الأمم المتحدة لإنهاء الاستعمار» جزيرة كاليدونيا الجديدة في قائمة «الأقاليم غير المحكومة ذاتياً، أي الواقعة تحت «الاستعمار»، وجاءت نتائج الاستفتاءات في عامي 2012 و2014 لمصلحة البقاء تحت العلم الفرنسي بفضل دعم الأحزاب المؤيدة للبقاء ضمن الدولة الفرنسية، مثل حزبي «التجمع من أجل كاليدونيا في الجمهورية«، و«المستقبل معاً»، ولهذا تقرر أن يكون هناك استفتاء أخير على الاستقلال، أو البقاء مع فرنسا بمناسبة نهاية الفترة الانتقالية التي استمرت عقدين، وفق اتفاق نوميا 1998، لكن عندما جرى الاستفتاء عام 2021 رفض نحو 96.5 % من الذين شاركوا في الاستفتاء الاستقلال عن فرنسا، ورغم أن النظرة الأولى لهذا الاستفتاء بأنه يدعم السلام السياسي والمجتمعي للجزيرة، إلا أن التظاهرات بدأت تأخذ من وقتها منحى مختلفاً وعنيفاً، ربما أكثر من كل التظاهرات العنيفة التي شهدتها الجزيرة في النصف الثاني من القرن الماضي

  • ماذا وراء التظاهرات ؟

1: تفسيرات لنتيجة الاستفتاء الأخير

ترى الحكومة الفرنسية أن هناك دعماً كاسحاً لبقاء الجزيرة ضمن العائلة الفرنسية، وأن المعارضين، والمتظاهرين، ومثيري الشغب، عليهم أن يحترموا الإرادة الجماعية لسكان الجزيرة الذين عبروا عن رغبتهم في البقاء تحت المظلة الفرنسية بنسبة تفوق 96 %، وأن باريس سوف تدافع بكل ما تملك من قوة عن إرادة الشعب في الجزيرة، بينما قادة التظاهرات من السكان الأصليين «الكاناك» يقولون إن هذه النسبة لا تعبر عن حقيقة ومواقف سكان الجزيرة، لأن فرنسا حاولت تغير هوية شعب كاليدونيا الجديدة عبر استقدام الآلاف من المهاجرين، الفرنسيين والأوروبيين، وحتى الآسيويين، حتى تغيّر من طبيعة التركيبة العرقية والسكانية للجزيرة، كما أن استفتاء عام 2021 شابه الكثير من العيوب الانتخابية، من وجهة نظر المعارضة، لأن الحكومة الفرنسية أصرت على موعد الاستفتاء رغم طلب المعارضة تأجيل الاستفتاء بسبب جائحة كورونا، ووفاة العديد من السكان الأصليين

2: تغّير في الجداول الانتخابية

تم الاتفاق عام 1998 على ثبات «الجمعية الانتخابية»، أي عدم إضافة أي ناخبين جدد للجداول الانتخابية، لكن فرنسا قررت إضافة نحو 25 ألف ناخب جديد إلى الجداول الانتخابية ممن عاشوا أكثر من 10 سنوات على أرض كاليدونيا، والحجة التي استندت إليها باريس هي أن فرنسا تمنح الجنسية لأي لاجئ، أو مقيم في الأراضي الفرنسية بعد مرور أقل من 10 سنوات، فكيف لها أن تمنع ذلك عمّن عاشوا أكثر من 10 سنوات في جزء من الأراضي الفرنسية وهي «كاليدونيا»، وهو ما رفضه زعماء المعارضة من «الكاناك» الذين يمثلون نحو 40 % من السكان البالغ عددهم نحو 270 ألف نسمة، وتجادل فرنسا أيضاً بأن أحفاد الأوروبيين والآخرين من غير السكان الأصليين يمثلون 59% من سكان كاليدونيا، وينقسم أحفاد الأوروبيين إلى قسمين رئيسيين، هما أحفاد الأوروبيين البيض الذين سيطروا على الجزيرة منذ قرن ونصف القرن، ويطلق عليهم «الكالدوش»، بينما القسم الثاني يضم من نزحوا إلى كاليدونيا الجديدة منذ تجميد الجداول الانتخابية عام 1998، وتعتقد الحكومة الفرنسية أن هناك ما يقرب من 43 ألف ناخب تم استبعادهم منذ عام 1998، وتتهم فرنسا الأحزاب المعارضة للاستقلال ب«الأنانية السياسية»، وهي جبهة «الكاناك»، وجبهة «التحرير الاشتراكي» التي تأسست منذ عام 1984 بقيادة جان ماري تجبياو زعيم «الكاناك»، إضافة الى «وحدة تنسيق العمل الميداني»، وهي تيار يدعم الاستقلال عن فرنسا

3: الثروات الضخمة من النيكل

كاليدونيا تملك ثاني أكبر احتياطي للنيكل في العالم، إضافة إلى الكثير من المواد النادرة التي تتكالب عليها أغلبية الدول الكبرى، ولدى الجزيرة نحو 25 % من الاحتياط العالمي المؤكد من النيكل، وهناك تقارير كثيرة تنشرها وسائل الإعلام الفرنسية تتحدث عن رغبة الكثير من الدول الآسيوية الكبيرة لزعزعة الاستقرار الفرنسي في الجزيرة بغرض طرد فرنسا من منطقة الإندو- باسيفيك.

4: نقل الملف إلى وزير الداخلية

أكثر الأسباب التي يمكن أن تكون وراء انتشار التظاهرات في كاليدونيا الجديدة، هو نقل ملف كاليدونيا من مكتب رؤساء الوزراء الفرنسيين إلى سلطات وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين، بعد أن كان يشرف على شؤون الجزيرة رؤساء وزراء، مثل جان مارك أيرولت، وإدوار فيليب، ومانويل فالس، وهناك انتقادات فرنسية داخلية تطالب بنقل ملف كاليدونيا من سلطات وزير الداخلية جيرالد دارمانين، إلى رئيس الوزراء، غابريل أتال، وباتت هناك انتقادات داخل كاليدونيا، وحتى داخل فرنسا نفسها لهذا الإجراء.

5: التفاوت الاجتماعي والاقتصادي

وفق بيانات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يعاني السكان الأصليين «الكاناك» تفاوتاً اقتصادياً واجتماعياً حاداً من السكان من أصول أوروبية، ويحصل «الكاناك» على 39 % فقط، من الدخل في العاصمة نوميا، كما أن شريحة كبيرة من الشباب لا تجد فرص عمل تلبي طموحاتها، ورغم ذلك تقول فرنسا إنها تنفق نحو 1.4 مليار يورور سنوياً من أجل تحسين حياة السكان هناك

  • طريق التسامح

يبذل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، جهوداً جبارة من أجل الحفاظ على نفوذ فرنسا في كاليدونيا، حتى لا يقال إن فرنسا خسرت إرثها في الخارج في عهده، كما تخشى فرنسا من أن استقلال كاليدونيا يمكن أن يشجع أقاليم فرنسية أخرى على الاستقلال عن فرنسا، لهذا يتبنى الرئيس ماكرون ما أسماه «طريق التسامح» لفتح صفحة جديدة مع سكان كاليدونيا، وطيّ صفحة الخلافات التي صبغت العقود الثلاثة الماضية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/28dt9bka

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"