عادي
في شاعرية البصر

الحرف يحلق في فضاء التوكل

15:41 مساء
قراءة 3 دقائق
هاشم البغدادي

يتميز بعض الخطاطين بلمسات خاصة، لا تخطئها العين، ولا يساور الشك المطلعين على أعمالهم في أنهم لم يمتلكوا تلك الموهبة صدفة، بل بعد دربة واشتغال حثيثين على تقديم ما هو أجل وأكمل في مجال الخط العربي الأصيل، ومن هؤلاء الخطاط العراقي هاشم البغدادي، وهو خطاط معروف على المستوى العربي والإسلامي بإتقانه التام للخط العربي، وبرونقه الجميل الذي خط به حروف القرآن، وقد اخترنا له هنا إحدى لوحاته المميزة بتركيب الثلث الجلي.

عرف الخطاط البغدادي بتميزه في خط الثلث الجلي بفعل قوة يده وثباتها وتركيزه في عمل لوحاته الخطية، وقد استند في ذلك إلى إرث المدرسة البغدادية لياقوت المستعصمي، واستفاد من المدارس اللاحقة التي طورت الخط بمجمله، بما في ذلك أدواته وأشكال حروفه ومقاطعه وتراكيبه، لتصبح اللوحات الخطية لديه أكثر إشراقاً وتنوعاً.

*مضمون

اختار البغدادي لمضمون هذه اللوحة الآية الكريمة: «قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا»، وهي آية تدل على الحث على تحقيق الإيمان من العبد لربه، وتوكله عليه بالإيمان بقدره، وهي من الآيات التي توحي بأهمية الإيمان بالله في الاستقرار النفسي، والتصديق بأنه الخالق الذي لن يفعل لعبده إلا ما فيه الخير له، حتى وإن كان يبدو له في بعض الأحيان شراً، لأن لله حكمة بالغة في كل ما يفعله للإنسان، وفي تصرفه في الكون بشكل عام، فلا يوجد شيء في هذه الحياة إلا وقد قدره الله بقدر محسوب، وله الرحمة التي وسعت كل شيء.

اعتمد البغدادي في هذه اللوحة على خط تركيب الثلث الجلي، واختار لها شكلاً بيضوياً، واشتغل على توزيع الحروف ومقاطع الكلمات على المساحة المخصصة للوحة بشكل دقيق، وركز في اختيار مواقع التشابك بين مكونات اللوحة.

*لمسة حروفية

جعل البغدادي الكلمة الأولى من الآية «قل» قاعدة لبداية اللوحة مع مَدّ حرف الألف ليصل إلى قمة الشكل البيضوي، وكأنه يقول للمشاهد القارئ: قل كل ما يأتي في هذا الفضاء الكتابي، ثم جعل كلمة «هو» في الجانب شبه الحاد من بداية الشكل البيضوي، موحياً بأن «هو» تشير هنا إلى من به الإيمان وعليه التوكل؛ ولديه الرحمة «الرحمن» جل جلاله، الذي جاءت كلمته «الرحمن» رابطة بين قمة اللوحة وقاعدتها، وبين نصفي الشكل البيضوي، محققة أهم خصائص التركيب لتشابك مكونات اللوحة، وخصص لكل من كلمتي «آمنا» و«به» مساحة خاصة وشبه مستقلة، وكأنه يريد من القارئ المشاهد أن يقرأها دفعة واحدة «آمنا به»، تحقيقاً لمناط الإيمان، ومنحاً لجمالية بصرية آسرة، ثم شبك حرف «الواو» مع مقطعي «آمنا به» ليسترسل المشاهد في قراءة الآية من خلال كلمة «عليه» التي أراد لحرفها الأول «ع» أن يتمتع بلمسة حروفية مميزة ليملأ به المساحة التي قد تنجر عن طول الكلمة التي أتم بها قاعدة الشكل، ثم ختم بكلمة «توكلنا» في مقطعين، خصص لأحدهما «تو» يسار الجانب الأعلى من الشكل، فيما خصص لثانيهما «كلنا» الجانب شبه الحاد من نهاية الشكل البيضوي، ليكمل به التصور الدلالي الذي يستوعبه المشاهد من الآية الكريمة.

ولم ينس البغدادي أن يملأ الفراغات المتأتية من التصميم الخطي بين الحروف من جهة، وبين المقاطع من جهة أخرى، فعمد إلى رسم الحركات والشدّات والنقاط، وبعض الأشكال التزيينية، ما منح منظر اللوحة جمالية، لا يقدر عليها إلا مبدع كبير مثل البغدادي، ومما يؤكد ذلك اختياره للون الأصفر لشكل الورق، وللون الأسود للكتابة، مع بعض اللمسات الزخرفية باللون الزهري التي أضفت على شكل اللوحة رونقاً خاصاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bfmy6xjc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"