عادي
في شاعرية البصر

الحرف طريق التضرع إلى الخالق

14:16 مساء
قراءة 3 دقائق
محمد النوري
الحرف طريق التضرع إلى الخالق
الشارقة: جاكاتي الشيخ
ينشط في الساحة الخطية العربية مجموعة من الخطاطين المبدعين، الذين يعكفون باستمرار على العمل من أجل وضع الخط العربي في مكانته اللائقة بين الفنون الجميلة، ومن بين هؤلاء الخطاط العراقي محمد النوري، الذي يعتبر من أبرز الخطاطين المعاصرين، فقد درس الخط في العراق، ودرَّسه لاحقاً مع فن الزخرفة، وأشرف على تأطير الكثير من الخطاطين الصاعدين، وتنتشر أعماله الخطية في العديد من المتاحف والمعاهد والمؤسسات العربية والدولية.
تشكل لوحة «الكتاب المرقم» إحدى أروع لوحات النوري، وهي عبارة عن قصيدة للشاعر الغنائي المصري عبد الفتاح مصطفى، مطلعها «مَولاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي»، خطها النوري بخط الثلث العادي في سِتِّ صفحات مزخرفة، وتتجلّى فيها براعته واجتهاده، حيث طاوعت الحروف أنامله ليقدم لنا تحفة رائعة، تبرز فيها قدراته الفنية ومعالجاته الجمالية الملموسة، التي تبيّن تمكّنه من ناصية الخط العربي بمختلف أساليبه، مع احتفاظه بملامح الأصالة الفنية لهذا الخط.
*همس
في هذه الصحفة من اللوحة اختار النوري خط البيتين الأولين من القصيدة، ويقول فيهما الشاعر: «مَولاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي/ مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟/ أقُومُ بالليل والأسحارُ سَاجيةٌ/ أدعُو وهَمسُ دعائي بالدُّموُع نَدي» وهما بيتان يظهر خلالهما الشاعر توجهه بالتضرع إلى الله، فهو الوحيد القادر على تفريج كربه، ولذلك أراد اللجوء له وحده، دون غيره من العباد، الذين لا يضرون ولا ينفعون إلا بما شاء، ولأنّ في الأسحار أوقات استجابة للدعاء، فقد اختار الشاعر أن يدعو ربه في ذلك الوقت من الليل، وكأن دمعه المدرار هو الذي يهمس بدعائه، وذلك ما حاول النوري تجسيده في هذا العمل، فمن خلال نوع خط الثلث العادي وطريقة تصميم اللوحة والزخارف التي تشعّ بالإشراق، طغت على اللوحة روحانية صوفية تَشِي بما يعتمل في قلب الشاعر من مشاعر وجدانية نحو خالقه.
*مرونة
لم يرد النوري تعقيد شكل الكتابة، فلذلك تعمد خط نص اللوحة بخط الثلث العادي، متكئاً على ما يتيحه من مرونة في شكل الحروف، فكتب النص بطريقة كتابة الشعر العمودي المألوفة، مُخصِّصاً لكل شطر سطراً محدداً، وجعل النص مائلاً، ليوحي بشكل الشاعر المتضرع إلى ربه، إذ يميل المتضرع الداعي إلى الأمام في خضوع ورجاء، فبدأ بالشطر: «مَولاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي»، الذي تجلّى فيه مستوى المرونة المطاوعة في الأحرف والكلمات، التي برزت بشكل واضح، مع المحافظة على أقل درجات التلاعب بأشكالها، رغم الحركة البسيطة التي تعامل فيها مع اللام ألف «لا» في «مولاي»، حيث قام بإعلائها قليلاً عن مستوى بقية النص، وكأنه يريد التنبيه إلى أنها الكلمة التي يبدأ بها الشاعر التوجه إلى الله تعالى، كما مدَّ تاء «بسطت» تحت «يدي» ليوحي بشكل اليد المبسوطة في الدعاء، ثم كتب الشطر الثاني من البيت الأول: «مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟» تحت الشطر الأول مباشرة مع التزام ما التزمه في سابقه، في ما كتب الشطر الأول من البيت الثاني: «أقُومُ بالليل والأسحارُ سَاجيةٌ»، متقدّماً قليلاً عن مستوى بداية الشطرين السابقين، ليقترب من حدود الإطار المشكل على البيتين، وقد راعى فيه نفس مستوى المرونة والمطاوعة والوضوح، وأتبعه بالشطر الثاني من نفس البيت: «أدعُو وهَمسُ دعائي.. بالدُّموُع نَدي»، والذي التزم فيه أيضاً بكل ما التزم به في سابقيه، رغم ربطه لألف «با» بلام «لد» في الجار والمجرور «بالدموع»، ليؤكد على الحالة الوجدانية الصادقة التي يعيشها الشاعر.
لقد حرص محمد النوري على زخرفة هذه اللوحة الخطية وتأطيرها بمستويين، حيث غلب على الإطار الخارجي اللونان الأصفر والأحمر، وهو ما زاد اللوحة إشراقاً، في ما هيمن اللون الأسود والبني والأزرق على الإطار الداخلي ليمنح اللوحة بهجة وصفاء يعكسان المضمون النصي للبيتين.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdf4z87j

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"