عادي
فيلم سعودي يستحق المشاهدة والإشادة

بسمة.. معالجة نفسية بلا سوداوية

22:48 مساء
قراءة 6 دقائق
لقطة من العمل

مارلين سلوم

بين 2016 و2024 شهدت السعودية قفزة كبيرة في مجال الفن، فتحت أبواب الإبداع أمام أبنائها ومنحت عشاق السينما من مؤلفين ومخرجين وممثلين فرصة للتعبير عن أفكارهم وطرح قضاياهم وتقديم أفلام تعبر عن المجتمع وطموحات أبنائه وتمنحهم فرصة عيش متعة مشاهدة أعمالهم معروضة على الشاشات وتلقي ردود أفعال المشاهدين أبناء وطنهم.. وبين 2016 و2024 عاشت الممثلة والمخرجة والكاتبة الروائية السعودية فاطمة البنوي مراحل التغيير والنهضة الفنية، منذ أول ظهور لها كممثلة على الشاشة وحتى تقديمها أول فيلم روائي طويل من تأليفها وإخراجها وإنتاجها (بجانب آخرين) وبطولتها وهو فيلم «بسمة» الذي يعرض حالياً على منصة «نتفليكس» ويحمل الكثير من المعاني الإنسانية والنفسية والاجتماعية ويعكس جانباً من العادات والموروث الفكري الاجتماعي.. فيلم يستحق المشاهدة والإشادة.

لماذا نعود بالذاكرة إلى العام 2016؟ لأنه العام الذي شهد أول ظهور لفاطمة وأول بطولة لها في فيلم «بركة يقابل بركة» تأليف وإخراج محمود صباغ، والذي قدم فيه شكلاً من أشكال المسموح والممنوع في المجتمع، وعبّر عن الرغبة الحقيقية في فك قيود الفن والإبداع.. وهو العام الذي جسدت فيه فاطمة البنوي أول بطولة لها وتألقت، بينما تقدم اليوم أول فيلم سينمائي يحمل توقيعها في البطولة والتأليف والإخراج، عاكسة بشكل غير مباشر القفزة الفنية الكبيرة التي تعيشها السعودية؛ وكما تقول فاطمة حول التشابه بين اسمي الفيلمين «بركة» و«بسمة» «ربما التشابه بين الاسمين كان مقصوداً في اللاوعي عندي ليكون كلا العملين مرحلة بارزة وفارقة في مسيرتي، والأهم في مسيرة صناعة السينما السعودية»، ومن يشاهد فيلم «بسمة» يلاحظ تطور مسيرة هذه الصناعة في السعودية، خصوصاً أن فاطمة البنوي كتبت عملاً اجتماعياً تتطرق فيه إلى علم النفس وما قد يصيب الإنسان من أوهام وعُقد تؤثر في علاقته بمحيطه، وربما يعيش عزلة مع نفسه فتوحي له بأنه مرفوض من الآخرين، كذلك تسلط الضوء على بعض المعتقدات الاجتماعية والعادات والتقاليد.. وكتابة فاطمة سلسة رغم عمق القضية النفسية التي تتناولها، ولاشك أنها تعكس جانباً من ثقافتها ودراستها، فهي ابنة مدينة جدة، حاصلة على ماجستير في الدراسات الدينية الإسلامية وبكالوريوس في علم النفس، والقصة التي تناولتها اجتماعية فلسفية واقعية يقتنع بها الجمهور ويصدقها؛ خبرتها في السينما بدأت في التمثيل، منها مشاركتها في المسلسل المصري «60 دقيقة» عام 2021 ولاقى نجاحاً بارزاً، وسبقتها مشاركتها في المسلسل الشهير «ما وراء الطبيعة» عام 2020، واللافت أن المسلسلين المصريين يبرز فيهما العامل النفسي والتعمق في النفس البشرية، كما هو الحال في فيلمها أو مولودها الأول «بسمة».

الفيلم قدم السينما السعودية إلى العالم
  • تفاصيل وتقلبات

فاطمة البنوي هي البطلة الرئيسية لكنها ليست الوحيدة في هذا العمل بل يشاركها تمثيلاً ياسر الساسي مجسداً دور والدها الدكتور عدلي سيف الدين، مي حكيم بدور منال، طراد سندي يجسد دور شقيقها وليد، محمد فوزي هو مالك صديق الطفولة والحبيب الذي رفضت سابقاً عرضه الزواج منها لتتركه وتسافر من أجل استكمال دراستها، وبعد عودتها تتجدد المشاعر بينهما وتتغير الأمور بعد أن تتخذ بسمة قرار الإفصاح عن مشاعرها ورأيها صراحة، بجانب كل من خالد يسلم، أمل الحربي ونادية ملائكة، كما شاركها في إنتاج الفيلم كل من محمد حفظي وولاء باحفظ الله.

رغم أن الفيلم يمتد لأقل من ساعتين، 105 دقائق تحديداً، إلا أنك تعيش معه تفاصيل كثيرة وتقلبات في حياة أبطاله دون أن تشعر بزحمة أو توتر، حيث تبدأ الأحداث من مشهد لبسمة وصديقتها في الولايات المتحدة الأمريكية، تقص جديلتي شعرها لتتبرع بهما إلى مركز «جدائل الحب» لمرضى السرطان، ثم تعود إلى جدة ليستقبلها في المطار شقيقها وليد ويتفاجأ كما كل شخصيات العمل بقصر شعرها، ولاحقاً نفهم أن التركيز على هذه النقطة يرمز إلى أهمية الشعر الطويل للفتاة في السعودية، حيث يعتقد الناس أن صاحبة الشعر القصير لن تجد عريساً ولن يقبل بها أي رجل، هذا ما يقوله لها والدها الذي يكرر ملاحظته على قصها لشعرها الجميل، رغم أن القصير يليق بها وهي جميلة في كل الحالات.. لكن فاطمة البنوي تبرز جانباً آخر لهذا المفهوم الاجتماعي الخاطئ، حيث يبدو مالك الصديق والحبيب يزداد إعجاباً ببسمة ويصر على الوقوف بجانبها في كل الأزمات التي تمر بها ومازال معجباً بجمالها وأفكارها.

  • الصدمة الكبرى

بوصول بسمة إلى منزلها تُفاجأ بغياب والدها الدكتور عدلي، ثم تأتي الصدمة الكبرى حين تخبرها والدتها أنهما منفصلين منذ شهرين ولم يخبراها كي لا تنشغل عن دراستها أو تشعر بالقهر وهي وحيدة في الغربة؛ لكن بسمة لا تتقبل الوضع باعتبار أنها كانت تسكن مع والديها ومن حقها عليهما استشارتها وإخبارها بتطور المشاكل بينهما وبقرار الانفصال.. تذهب مع وليد لزيارة أبيها في الشقة التي يسكنها، وهو منزل الأسرة القديم، لكنه يرفض فتح الباب، فتعود أدراجها ثم تقرر الانتقال للعيش معه، باعتبار أنها «بسمته» ولا بد أن تقف بجانبه ولا تتركه وحيداً، ورغماً عن الدكتور عدلي تقوم بسمة بإجراء تعديلات في الشقة منها تنظيف وترتيب كل شيء، ثم شراء نباتات متنوعة لتملأ بها الشقة. الأب يعيش عزلة ويرفض تذوق الطعام الذي يرسله له ابنه وليد كل يوم، بل يرميه في النفايات قائلاً لابنته «أرفض تبرعات أخيك فلست جمعية خيرية يتصدق لها بالطعام».

بسمة تحسب أن والدها يمر بأزمة نفسية سببها سوء فهمه من قبل عائلته، وبأنه إنساني طبيعي لكنه يحتاج لمن يتقبل أفكاره، وأن والدتها مسؤولة عن عدم قدرتها على تحمل الحياة بينهما، لكنها يوماً بعد يوم تكتشف أنه يعاني عقدة تحسبها في البداية بسبب شقيقه الأكبر عادل والذي يصفه دائماً بأنه غير عادل، يتحكم بكل شيء وبكل الناس ويلقبه ب «الثعبان النرجسي».. ميزة فاطمة البنور أنها تقدم صورة كاملة عن الأسرة التي تضم الأم والأب والإخوة والجد والأعمام وعائلاتهم وأبناء العمومة والأصدقاء، بل تقدم شخصية من أصحاب الاحتياجات الخاصة من أسرتها في مشهد قصير ولكنه لافت، ولفتة طيبة من الكاتبة والمخرجة لتشمل فئات متنوعة من المجتمع.. الدكتور عدلي متخصص في علم البيئة وكان رئيس المختبرات لمدة عشرين عاماً في إحدى المستشفيات التي يتردد عليها لزيارة طبيب، ترافقه ابنته لتفاجأ بتصرفاته الغريبة وجانباً من الهواجس التي تطارده، حيث يحسب أن الكل يقلل من شأنه ويخطط لإيذائه أو خداعه، وهي أعراض يعانيها مرضى «اضطراب الشخصية الزوراني» الذي نرى بسمة تقرأ عنه، فنفهم أن الكاتبة تشير إلينا بما قد يكون مرض والدها، والذي تجده معظم الوقت طبيعياً، ذكياً، عالماً، قارئاً.. أكثر ما يوحي باضطرابه النفسي أنه يقفل منافذ الهواء من التكييف بأوراق المناديل، ليحمي نفسه من تسرب الميكروبات والجراثيم من المكيفات حيث تعشش وتعتبر من أكثر المسببات للأمراض للناس، كذلك لصقه أوراق الصحف والكتب على زجاج الشرفة ليحجب الرؤية من خلاله.

كتابة فاطمة البنوي تحمل رسائل إنسانية ونفسية واجتماعية تمررها بنعومة وجمال لتلمس وجدان ومشاعر الجمهور، فمعاناة والدها واضطراباته النفسية تخدعها في البداية إلى أن تصطدم بحقيقة وخطورة مرضه، فنكتشف معها خطورة ما قد يخفيه هؤلاء المرضى النفسيين، وبذكاء تأخذنا لنرى بعينيها ومشاعرها فنحكم مثلها على الشخصيات، نتعاطف مع والدها ونراه مظلوماً مقهوراً بسبب ظلم أخيه عادل غير العادل، وبسبب والدتها التي قررت التفرغ لنفسها والعيش بهدوء، ومعها ننتقل إلى المقلب الآخر فنفهم أن عادل محق ولم يبخل على أخيه بل إن والدها قد سجن نفسه وظلمها داخل أوهام وكما يقول العم لابنة أخيه: «والدك أسير أفكار ليس بيده تغييرها، ومرضه يصيب الأذكياء»؛ وفي المقلب الآخر أيضاً نتعاطف مع الأم حين نكتشف مع ابنتها أنها حاولت الكثير ولم ترض بالانفصال إلا رغماً عنها.

ومن أهم مميزات «بسمة» أنه فيلم يقدم مرضاً نفسياً بلا سوداوية ولا تعقيدات، سلس جميل في التصوير والإخراج والرسائل الاجتماعية والعلمية التي يمررها، وجميل بالرومانسية الناعمة التي تتجسد في قلب الحكاية وتمر كالنسمة الناعمة في أحداث تجعل البطلة شديدة التوتر لدرجة أنها تترك أثراً وألماً في بدنها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/28dvp4k2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"