تأمّلات شائكة

01:09 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

حين يقف الإنسان بين يديّ الخالق، بذاته لذاته، تغيب المذاهب والمعتقدات والاجتهادات والصراعات، تتلاشى النقاشات والاستماتة لإثبات الحقيقة، تتوقف الطموحات والأمجاد، وتحضر الحقيقة الأزلية، خالق ومخلوق، إنسان فانٍ ورب خالد. لو صدقت تلك اللحظة، لعاد الإنسان إلى حالته قبل خروجه من رحم أمه، شديد البياض، بالغ الصفاء. لو احتفظ الإنسان ببراءته وبياضه ومحبته وسماحته وتسامحه، لما قتل أخ أخاه، ولما نشبت الحروب، ولما امتلأت الأرض بالدم والشرور والأحقاد والكراهية.

لن ندخل في عكس الفرضية أو نبش حيثياتها أو فرضياتها وافتراضاتها، لأن كل الحديث يبدأ ب(لو) ويعتمد عليها. لكن المسألة المعقّدة لا تنتهي هنا، كما أن النقاش لا يتوقّف هنا، لأن وعي الإنسان لا حدود له، فإما يأخذه إلى النار والحروب، وإما يأخذه إلى السلام والسكينة. وهنا يمكننا طرح مسألة خطيرة: هل الوعي عدو الإنسان؟ الجواب الفوري يقول: إن الاجتهاد مشروع، لكن بقي أن نعلم دوافع الاجتهاد الذي سيقود إلى تكوين وعي ما، هل هو خالص لمعرفة الحقيقة، أو لتحريف الحقيقة، أو لصنع حقيقة جديدة تتناسب ومصالح واضعها؟

وهنا نطرح فكرة خطورة المعرفة، أو خطرها، والقول البديهي يقول: إن المعرفة مُنتج من صنع الإنسان، تكون مخرجاته حسب توظيفه، ولكن، عن أي معرفة نتحدث؟ هل هي المعرفة الروحانية، أم المعرفة العلمية؟ قديماً، منع أصحاب المعرفة الروحية أو الروحانية التعاطي مع الفلسفة، قراءتها أو تدريسها، أو النقاش حولها، وكانوا يعتقدون أنها ستقود إلى انقسام في الآراء، أي التعنّت، أي التطرّف، وقد تتأسس الأحزاب والجيوش وفق هذه الفلسفة، وكل صاحب فلسفة يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الخيّرة، وسيُلبسها فكرة دينية كي تنتشر بين العامة، الذين هم وقود الحروب. وهناك من يقول أنه كلما تبحّر الإنسان في الفلسفة، أو في البحث العلمي، فإنه يعرف الخالق أكثر، وهنا نعود إلى الدافع من وراء تأسيس المعرفة. هل بعد كل هذا، يمكن القول: إن المعرفة يمكن أن تكون موجّهة، شأنها شأن السياسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ وتوجيهها يعتمد على منظومة القيم التي تحرّكها، ما معناه، أن المعرفة، إذا كانت روحانية أو علمية مادية، لا بد وأن ترافقها منظومة من القيم. ونحن نفهم بأن الخير العام هو محتوى القيم، وإذا كان كذلك، يجب أن تكون الأداة سلمية، لتحقيق الخير. هنا سيحتدّ المتطرفون، المبرمجون وفق معرفة معيّنة، وسيقولون: ليس بالضرورة لتحقيق الخير أن تكون الأداة سلمية. طبعاً هذا يعتمد على ما هيّة الخير.

وهو سؤال فلسفي بامتياز، فهناك من يقول: إن الخير هو معرفة الله، وهناك من يقول: إن الخير هو بناء الإنسان، وثالث يقول: بأن الخير هو بناء المجتمع، أو الوطن. وفي الواقع فإن كل تلك العبارات تؤدي إلى مسار واحد، خاصة إذا اكتفى الإنسان بذاته، أي أن يصلح ذاته، أو يرفع من إنسانه، أو مجتمعه، أو وطنه. أما إذا وصل إلى فلسفة تطلب منه تصدير (خيره) للأخر، فهنا تبرز مفردات مثل الإجبار والإكراه، وما يصحبها من عنف وربما تنكيل وحروب ونار ودمار، ما يعني أن الطريق إلى الخير سيعترضه ويكتنفه شر أو شرور.

أعتقد بكل تواضع، أن اللجوء إلى تصدير الفكرة الخيّرة، سيحمل معه خروجاً عن القيمة، أي المعنوية، وسيجره نحو المادية، أي الاستحواذ، أو الاحتلال، وبلغة السياسة، الاستعمار، ويقول لنا التاريخ: إن المستعمر الذي ادّعى أن مهامه وواجباته، أن يحضّر أو يمدّن الشعوب الأخرى، بمعنى أن ينقل لها حضارته ومدنيته، أي يعتدي على ثقافتها وتراثها وعاداتها وتقاليدها ومعتقدها، إن صاحب هذه الفكرة، يريد أن يجعل من العالم أمّة واحدة، وهو طرح نزّه الله نفسه عنه، وخلق الناس شعوباً وقبائل، ليتعارفوا، وجعل التقوى هي معيار الأفضل، وهنا نعود إلى القيم، ونقول: إن المعرفة حين تخلّت عن منظومة القيم الخيّرة أو السلمية، تحولت إلى معرفة خطيرة جداً، إذ ليس أسوأ أو أصعب من نشر المعرفة بالإكراه، وهذا يتعارض مع الفلسفة الربانية أيضاً، التي تقول: لا إكراه في الدين.

قد يظنّ القارئ للوهلة الأولى أنني أتحدث في عقيدة ما، وله الحق في ذلك، لكنني في الواقع أتحدث عن الإنسان، عن سلامه مع نفسه والآخرين، عن عمله مع الآخرين لتوسيع فضاء الإنسانية، وتكبير حقول التسامح والمحبة، وزرع حدائق النفس بالورود. وهو أمر ليس بيسير أبداً، لأن المجتمعات البشرية، وبفضل البحث عن الحقيقة، والإيمان بالوصول إليها ومعرفتها، زرعت بذور الاختلاف مع الآخر، لأن الحقيقة، إن كانت معنوية أو مادية، لا نهاية لها، وبالتالي، فإن الادعاء بالتوصل إليها هو إيقاف العقل عن التفكير، وفي هذه الحالة، يضيق الفكر، وتضيق الأرواح، وتضيق الجهات، والمدى والسماء وكل شيء مترام، بل يضيق التأمّل، وتتوقف عملية توليد الفكرة من أختها، ويبدأ الإنسان في اجترار نفسه، فيفسد ويتعفّن، ويتوقف تطوّره.

ليت هؤلاء الذين توقفت عقولهم عن التفكير، يفتحون نوافذ بيوتهم ويخرجون إلى شرفاتهم، ويغمضون أعينهم وينظرون إلى دواخلهم، بذواتهم ولذواتهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3fmn3rkb

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"