بورتريه سريع لمحمد طملية

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

كان محمد طملية (1957-2008) أول من أدخل الكتابة اليومية الساخرة إلى الصحافة الأردنية في أوائل الثمانينات، ولم يكن الأمر صدفة أو اقتحاماً عشوائياً لمثل هذا النوع من الكتاب، بل كان هو ساخراً كبيراً من كل شيء حوله، وإذا لم يجد ما يسخر منه كان يسخر من نفسه، وقبل احتراف الصحافة الساخرة كان أيضاً كاتب قصّة قصيرة مبنية على سخرية سوداء أو بيضاء لا فرق، غير أن الأهم من كل ذلك أنه كان فأر قراءة كما يقولون، وبخاصة للأدب الروسي.

كانت مقالة محمد طملية في أقل من 300 كلمة.. مقالة خفيفة، ملمومة، وسريعة، سريعة الفكرة، وسريعة الجملة، تلك الجملة القصيرة دائماً وأبداً، مثل حياته القصيرة. لم يكن صاحب «المتحمّسون الأوغاد»، إحدى مجموعاته القصصية، يبحث عن مجد صحفي أو أسبقية مهنية في فن السخرية، لا بل لم أسمعه يوماً لا في حديث شخصي أو صحفي وقد وصف نفسه بأنه كاتب ساخر، وربما كان حتى يهرب من كلمة (كاتب).. قاصّ أو صحفي أو غيره، بل كانت الحياة بمعناها العريض كما يقولون هي مبتدأ وخبر أيامه ولياليه، وإذا لم تجده في شقة صغيرة عادة يستأجرها في منطقة الشميساني غربي العاصمة الأردنية عمّان، فسوف تجه في «النيروز» أو في «الديبلومات» أو في «الهورس شو» في الظهيرة تماماً، وقت الحياة الأحب إلى قلبه تماماً مثلما حب قلبه لجبال الأردن وأحراشها وزهورها البرية التي كانت تتردد كثيراً في كتاباته.

سأل أحد المسؤولين محمد ذات يوم بهذه الصيغة العفوية قائلاً له: (من أين أنت يا محمد؟)، فأجابه بسرعة بديهته الحاضرة دائماً: أنا أردني من أصل فلسطيني، وفلسطيني من أصل أردني، ووضع يده على إحدى عينيه التي كانت تتأذّى من الضوء أو نور الشمس القوي، ذاهباً دائماً إلى شأنه الانفرادي الوحيد المتصل جذرياً بالحياة، مندفعاً إلى مباهجه الصغيرة الجميلة بين أصدقائه، وقد جلجل بالنكات الخفيفة المنطوية، بالطبع، على سخريته من دون أن يجرح أو يؤذي أويبتذل.

لم يمد يده إلى أحد، ولم يتملق مسؤولاً أو إعلامياً أو تاجراً، ولم يستعرض بؤسه أو جوعه أو شراهته في مقالته السريعة تلك، وهو على كل الأحوال لم يجع ذات يوم ولم يكن شرهاً أو بائساً في كل عمره الذي كان يكثّفه يومياً في مقالته القليلة الحجم مثل جسده.

جاء بعد شخصية محمد طملية الصحفية الساخرة كتّاب أردنيون كثر في سياق هذا الفن، لكن أي واحد منهم لم يكن طملية أو شبيه طملية، مرة ثانية لأنه كان قارئاً ومبدعاً أدبياً أصيلاً، والأجمل في بورتريه هذا الكائن الحميم البسيط أنه لم يشنّع ذات يوم على أحد، ودائماً كان شبعان، إلى أن طلعت روحه إلى السماء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mtsj88aw

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"