من أين جاءت كلمة بيت إلى الشعر؟
سؤال خطر حين عادت بي الذاكرة إلى صورة مضارب بيوت الشَعر (بفتح الشين) في طفولتي، حيث عشت وقتاً من تلك الطفولة بين تلك البيوت المصنوعة من نسيج وبر الماعز والمشدودة إلى أعمدة وحبال وأوتاد بمهارة لا يعرفها إلّا أهل البادية أو سكان تلك المضارب، حيث تتجاور البيوت وتتآلف وتتقارب في جوّ حميم من العائلية المنفردة في البادية أو في البرّية للنور دائماً، نور الشمس في النهار، ونور القمر في الليل.
عشت تلك الفترة القصيرة من الطفولة في كنف جدّي قبل أن ننتقل إلى بيوت الحجر والإسمنت والحديد في المدينة أو في شبه المدينة، ورغم تلك الفترة القصيرة ، إلا أن صورة ذلك البيت لم تغادر الذاكرة، لا بل أخذت تتشكل أكثر وضوحاً من الزاوية الثقافية كلما أخذت أتوغل أكثر في قراءة الشعر العربي (البيتي) أي العمودي الخليلي، ورحت أتساءل: أيكون الشاعر العربي استعار كلمة (البيت) من بيت الشَّعَر ذاك، لما في البيتين: بيت الشعر وبيت الشَعر من متشابهات ومتقاربات تكوّن علاقة معنوية وتشكيلية وبنائية تجعل من مقاربة البيتين حقيقة ثقافية توصّل إليها شاعرنا العربي الذي ربط بين (البيت) وبين (الشعر).
يتكون بيت الشَعر ممّا يُسَمّى (الشُّقَق) بلغة البدو، وهي مصنوعة من نسيج تقوم به النساء في العادة.
ينهض بيت (الشَعر) على عدة أعمدة ويسمى العمود الذي يتوسط البيت ب (الواسط)، وَيُشَدّ البيت بالحبال إلى مجموعة من الأوتاد الخشبية عادة، وَيُسمّى القسم الذي يجلس فيه الرجال بِ (الشّقْ) ويفصله عن مكان النساء تلك (العِدَّة) وهي ألحفة وفرشات ووسائد العائلة، وقد سويت على نحو تراكمي من الأسفل إلى الأعلى، أما (الرواق) فهو يأتي في ظهر بيت الشَعر.
بالمقابل، يتألف بيت الشعر العمودي الخليلي من صدر وعجز يتماثلان مع ظهر بيت الشَعر ومقدّمته، أما (الأوتاد) التي يُشَدّ إليها بيت الشَعَر بالحبال فهي موجودة في علم العروض، كما أن الأعمدة التي يقوم عليها (بيت الشَعر) يمكن أن تتماثل أيضاً مع النظام الوزني العروضي.
أكاد أجزم أنه من هنا جاءت كلمة (بيت) إلى الشعر وارتبطت به منذ أوّل بيت عمودي خليلي.
لم يكن للشاعر العربي القديم سوى بيوته المتنقّلة، ومضاربه التي تتحول إلى أطلال حين يغادر إلى مطرح آخر، وهو، لأن الشعر مكانه الوجودي أيضاً، قام باستعارة وجودية بيته كلّها، وأسقطها أو وظفها في قصيدته العمودية، أي أن الشاعر يعيش في مكانين: بيته، وقصيدته.
