نصب تذكاري للجواهري

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

من الخبر المنشور أمس في بعض الصحف العربية حول إقامة نصب تذكاري للشاعر محمد مهدي الجواهري في العاصمة التشيكية براغ، لم يكن واضحاً من هي الجهة التي وراء هذا التكريم اللّافت فعلاً لأي متابع ثقافي. أهي الحكومة العراقية، أم هي مدينة براغ التي كتب فيها الجواهري وعاش نحو ثلاثة عقود هي كما يقال من أجمل مراحل حياته. ولكن أياً كانت الجهة التي تبنّت فكرة النُّصب، واشتغلت على إقامته في براغ، فإن الحدث في حدّ ذاته يستحق التحية من كل شاعر عربي في وطنه أو في منفاه أو في اغترابه المكاني والوجودي، وبخاصة منفى واغتراب الشعراء العراقيين الذين شرّدتهم الحروب والأيديولوجيا وجشع السياسة والسلطة في مغارب الأرض ومشارقها، ومن بينهم الجواهري، آخر كبار القصيدة العربية العمودية. هو الذي حفظ لهذه القصيدة كرامتها الجمالية والمعنوية في الذاكرة الثقافية العربية، وهي ذاكرة الشعر بشكل خاص، الشعر العربي.. الهوية، والشخصية، والكينونة الإبداعية المتوالية.

لماذا لم يُقم النصب التذكاري للجواهري في بغداد؟ أو لماذا لم يُنصب له تمثال في دمشق، أو في عمّان، أو في القاهرة، على سبيل المثال؟ كل هذا لا يهمّ، فالرجل تمثاله ومثاله حاضران وقائمان في الروح الشعرية العربية، كما هو حاضر في هذه الرّوح جبران خليل جبران، وهو الآخر نصبه التذكاري الأول كان في أمريكا، بلد مهجره، وليس في لبنان بلد مسقط رأسه.

حقاً لا يهم أين يكون التمثال، أو أين هي أرض النصب التذكاري، طالما أن البشر الذين يحملون رمزيات هذه التماثيل هم أصلاً لا تُعرف الأرض التي ماتوا على ترابها، فإذا كان الجواهري قد حظي بهذه التكريمية الرمزية والمعنوية في براغ وبعد سنوات على غيابه، فإن الكثير من الشعراء العراقيين لا تُعرف حتى أين قبورهم، وأين قصائدهم، وأين ما تبقى من أبنائهم.

سردية الشاعر العراقي، في بلاده، وفي مهجره، وفي اغترابه أو منفاه هي رواية تراجيدية طويلة لم تكتب بعد، ولن تكتب، ذلك لأنها سردية الألم الذي لا ينتهي. إنه هذا الألم الذي كوى بالحديد والجمر جسد وروح عبد الوهاب البياتي، وحسب الشيخ جعفر، وبدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، وسركون بولص، وغيرهم من شعراء النخلة العراقية التي لم تكف عن البكاء منذ عشتار، وإلى اليوم..

الألم هو القسمة المشتركة بين شعراء العراق، وليس بالضرورة توصيف هذا الألم إن كان مادياً جسدياً، أو كان رمزياً معنوياً، بل إن الواقعي هنا تماماً أن كل واحد من هؤلاء الشعراء له أيضاً تمثاله وله نصبه التذكاري مثله مثل الجواهري، والفرق فقط أن صاحب «يا دجلة الخير» هو الآن في براغ، وأولئك الشعراء هم الآن، في اللّامكان، وربما، بعضهم، في اللّاذاكرة، فمن عنده الذاكرة، يا عيني، ليقيم نصباً تذكارياً مثلاً لجان دمّو؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3jerkzv3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"