عادي
في شاعرية البصر

جمالية الحرف تغزو دروب التشكيل

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل حمودي

الشارقة: جاكاتي الشيخ
شكّل النصف الأول من القرن العشرين مرحلة الانطلاقة الفعلية للمدرسة الحروفية التي أدخلت رسم الحرف العربي في الفن التشكيلي، على يد ثلّة من الفنانين العرب، من أهمهم العراقي جميل حمودي، الذي انصبّ جهده منذ مراحل الدراسة، وحتى وفاته، على توظيف التراث الإسلامي في عملية الإبداع، ليترك إرثاً غنياً من اللوحات الفنية التي لا تزال تعتبر من أيقونات الإبداع العربي في هذا المجال، ومن بينها اللوحة التي بين أيدينا.

حاول الفنان حمودي في بداية تجربته مزاولة الفن التشكيلي، بخاصة ما يدخل منه في إطار المدرسة السريالية، أو الرمزية، إلا أنه سرعان ما تحول من ذلك إلى التجريد، مستفيداً من إرث الخط العربي، ومازجاً إيّاه بجماليات الفن التشكيلي المعاصر، ومُتعمداً استلهام روح الحضارة العربية الإسلامية في مضامينه، حيث جعل من محددات موروثها - من حروف عربية وقباب ومآذن وغيرها - مكونات دائمة لأعماله، يشكّلها بمجموعة من الألوان البراقة التي تضفي على مشهدية لوحاته بعداً جمالياً لا تخطئه العين، ليصل شيئاً فشيئاً إلى ملامح الحروفية العربية، وهو ما يبدو جليا في هذه اللوحة التي يتبادر لذهن متلقيها من أول وهلة، أنها لوحة عربية خالصة.

  • سِمات

يظهر في هذه اللوحة أن التداخلات بين تشكيلات الحروف داخل لغة التشكيل هي أهم السمات التي حرص الفنان حمودي على إبرازها فيها، فقد ربطت بين الفضاء والتخوم في مساحات لونية، واستطالات، وأقواس، ودوائر متجاورة مع الحروف التي غابت عنها قواعدها الشكلية المعهودة في الخط العربي، حيث تترامى هذه الحروف في حرية موضعية تكسبها عمقاً وجودياً، تشكل به مع بقية الأشكال أكثر من بُعد دلالي للوحة، ليظهر كل واحد من مكوناتها كقيمة مضافة لا غنى عنها، إضافة إلى أن ليونة الحروف وطواعيتها جعلتها أجزاء من الأشكال المختلفة في اللوحة، فالشكل الهرمي الذي اعتلاه لفظ الجلالة في أعلى اللوحة، دليل على السطوة الشكلية داخل عناصر التشكيل الأخرى، لاسيما وأن المساحات المنبسطة على جانبي لفظ الجلالة مثلت الحروف المشكّلة لكلمة بغداد؛ اللتين ضمرتا خلف الرؤية المباشرة، ومثل ذلك هو ما يحفز المتلقي على دقة المشاهدة، والمتابعة، من أجل اكتشاف ما يوجد في هذه اللوحة، فقد تداخلت أيضاً مساحات أشكال الحروف لونياً مع المساحات الأخرى، كالفضاء، وأشكال القباب، وقرص الشمس، الذي يظهر في أعلى اليسار، ما يحد من المباشرة الحروفية في العمل الفني، حيث تعمد الفنان عدم إظهار الكلمات كما هو حالها في منطوقها التداولي اللغوي السائد، وأراد بدلاً من ذلك أن تكون للحروف وظيفة أخرى يكشفها المشاهد خلال تلقيه الجمالي للوحة.

  • طابع لوني

في هذه اللوحة يقترب حمودي من أسلوب المدرسة التكعيبية في الفن التشكيلي، ويظهر ذلك في تجزئته لبعض الحروف المرسومة كأجزاء لونية في هيئة مكعبة، وقد استخدم مزيجاً من الألوان الحارة، والباردة، وبأطياف مختلفة، مركّزاً على إعطاء العمل طابعاً لونياً عربياً كذلك، من خلال استخدامه للألوان الشرقية، كالأخضر، والأصفر، والأزرق، واللازوردي، والأحمر، والرمادي، التي تعتبر من أهم سمات الفنون العربية الخطية، والمعمارية.

لقد بيّنت هذه اللوحة بشكل جلي، القدرة الإبداعية لحمودي، الذي سعى طيلة مسيرته الفنية إلى إعطاء الحرف العربي بعده الجمالي خارج منطوقه اللغوي، وهو ما نجح فيه، مستعيناً بما نهل من علوم إسلامية، وعربية، وغربية، ومعزّزاً رؤيته الفنية باستلهامه من تراثه العربي الإسلامي، المادي واللامادي، وهو الذي دعا مراراً إلى فهم هذا التراث بصورة واعية، ونقله من حالة إدراك الشكل الحروفي إلى تحليل المضامين والمعاني، بكل جوانبها الروحية، من خلال ربطها بأشكال ومجسمات دالة على إمكانية توظيفها التشكيلي المتنوع، ليفتح بذلك أمام القادمين بعده فضاء جمالياً رحباً تُشكل الحروفية العربية أحد أهم تجلياته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yyn7f35h

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"