بخمسة قروش فقط

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

أبداً، لن تعود إلى الحياة من جديد صحافة السبعينات والثمانينات والتسعينات. صحافة الأعمدة الثمانية المكتملة حيث الصحيفة كأنها ستارة أو لوحة، والأعمدة الثمانية كما هي بلا زيادة ولا نقصان. صحافة المانشيت الأحمر المكوّن أحياناً من ثلاث كلمات فقط.

لعلي هنا أترحّم على الصحافة الثقافية آنذاك. صحافة الخطّاط، وورق الفاكس، والمساحات البيضاء المتروكة للنص الأدبي بكرم زيادة في البنط والخط والإخراج.

كانت القصيدة تأخذ مجدها في الصفحة الثقافية في زمن تلك العقود الثلاثة، عقود الورق الكريم والحبر وصورة الفوتوغراف بالأبيض والأسود، وما من قصيدة تنشر آنذاك إلا وإلى جانبها «سكتش» فني يقوم برسمه مبدع متخصص في الجريدة، وكان ذلك بشكل خاص في السبعينات والثمانينات، زمن فوران قصيدة التفعيلة وغرور قصيدة النثر. وبذلك فهو فعلاً زمن المساجلات الثقافية، أو ما كان يسمى «المعارك الأدبية» بين هذا التيار الشعري وذاك بكل أخلاقيات السجال، وإن كانت السياسة والأيديولوجيا تشوّه، أحياناً، تلك الحروب الثقافية الناعمة.

كانت حروف الطباعة تُصفّ باليد، وكان عمال المطبعة معروفين لنا من أصابعهم الملطّخة بالحبر، أما أجمل ما كان في الصحف فهم الخطّاطون الذين يكتبون المانشيت والعناوين الرئيسية والفرعية.

الصفحات الثقافية كانت تصدر في الكثير من الأحيان يوم الجمعة، كان ذلك اليوم هو يوم الثقافة الذي ينتهي إلى سهرات ليلية تمتد أحياناً حتى مطلع الفجر، ويجري خلالها مناقشة ما نشر من شعر وقصة ونقد أدبي ونثر وخواطر وكتابة حرّة هي معاً فاكهة نهاية الأسبوع.

تلك العقود الثلاثة من السبعينات إلى التسعينات كانت أيضاً عقود القصة القصيرة: يوسف إدريس في مصر، وزكريا تامر في سوريا، ومحمد خضيّر في العراق، وجمال أبو حمدان وإبراهيم العيسى، وخليل السواحري في الأردن، وغيرهم من نجوم فن القصة التي وُلد فن قصصي آخر من ضلعها هو القصة القصيرة جداً.

كانت القصص تنشر في الصحف، وكذلك الشعر، وكان أمراً عادياً تماماً أن تقرأ قصيدة مفرودة على صفحة كاملة في الجريدة أو نصف صفحة، وفي نهاية الشهر يذهب الكتّاب إلى قسم المالية في الجريدة، ويتسلم كل منهم مكافأة النشر بكل احترام.

تلك الفترة لم تكن حالة صحفية رائعة فقط، بل كانت أيضاً حالة ثقافية واجتماعية ونفسية رائعة أيضاً.

كان مجرّد شراء الجريدة، ولفّها تحت ذراعك، ثم التوجّه إلى مقهى بحدّ ذاته، مقهاك، في وسط البلد، ثم قراءة الجريدة في الضّحى مع فنجان قهوة.. كلّ ذلك، كان طقساً وجدانياً ووجودياً تتكثف فيه الحياة على شكل فرحة يومية بخمسة قروش فقط، أو ما يساويها من أية عملة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ymm37n8m

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"