الشارقة: جاكاتي الشيخ
الفنان السوري عبد الرزاق المحمود واحد من الخطاطين الشباب الذين أنضجوا تجاربهم بالكثير من المثابرة والصبر، فقد أثبت طيلة مسيرته أنه مدرك لقيمة الرسالة التي يجب عليه حملها في إبداعاته، فظل باحثاً عما يصقل موهبته ومشتغلاً على ما ينمي مهاراته، حتى وصل إلى مرحلة الإتقان، وصار من الخطاطين المتميزين في العديد من الخطوط وخاصة الديواني الجلي، الذي كتب به اللوحة المعروضة بين أيدينا.
برع المحمود في خط الديواني الجلي بعد أن منحه الكثير من وقته، فبالإضافة إلى بحثه العميق فيه وفي خصائصه التي تميزه عن غيره من الخطوط، حاول أن يقدم من خلاله لمسات خاصة يظهر من خلالها انتماء أعماله لعصرها، فلم يقلد الأعمال السابقة، ولكنه استلهم منها ما يبقي هذا النمط التقليدي على أصالته، كما يتجلّى في هذه اللوحة.
*طواعية
اختار المحمود للوحته نص آيتين كريمتين من سورة الواقعة، يقول فيهما الله جل جلاله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مكْنُونٍ﴾، وخطه بالديواني الجلي لما يتميز به من جمالية بصرية، تتيح خصائصُه إمكانية تحقيقها بشكل متفرد، ومن أهمها طواعية حروفه للتكوين، وهو ما قد لا يتطلب من الفنان سوى الالتزام بالقاعدة الأصلية لثبات الشكل، على أن يمتلك الحرية في تصميم تكويناته وتنفيذها بتباين في أحجام الخطوط، وهو ما لا تتيحه أنواع الخط الأخرى، ومن تلك الخصائص كذلك اعتماده على استدارة الحروف وتقويسها وتداخلها، والإكثار من علامات الزخرفة التي تملأ الفراغات مع النقاط وحركات التشكيل، ما يجعله خطاً زخرفياً بامتياز، وهي كلها مميزات حرص المحمود على تطبيقها في اللوحة.
وينبع اختيار الخطاط لهاتين الآيتين من كونهما تتحدثان عن القرآن الكريم، الذي أوحاه الله إلى رسوله، وأكد على عظمته في الكثير من آياته، وفي كتاب مكنون أي موقّر ومعظّم ومحفوظ، فقد جعله الله دستوراً لخاتمة الرسالات السماوية، ووعد بكفالته وحفظه من التحريف والتغيير، فلذلك ظل على حاله منذ أنزل، دون زيادة ولا نقصان.
*طابع تشكيلي
صمم المحمود عمله على شكل زورق سابح في بحر، وكأنه يوحي بدوام سباحة هذا الكتاب المحفوظ في بحر الحياة الدنيوية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وبدأ الشكل الخطي بكتابة «إنه» في جانبه الأيمن، حيث قوس ألفها لتوائم شكل الحافة، وأتبعها بـ «لقرآن»، التي داخل بين ألفها المقوسّة ونونها التي عمد إلى كتابتها بشكل شبه دائري، وداخل معها العديد من الحروف للدلالة على ما يحويه القرآن من فضل وشرع وعلوم، ثم كتب «كريم» في امتداد يشق كامل الشكل، من أجل تأكيد الصفة، وكتب «في» في حضنها كنقطة وصل بين المقطعين، وكتب كلمة «كتاب» متداخلة الحروف وبسعة تسمح باحتوائها على كلمة «مكنون»، تأكيداً على ما سبق للدلالة على ما يحويه القرآن الكريم، وإشارة إلى الحفظ الذي تعنيه صفة «مكنون» المحفوظة هنا في كلمة «كتاب»، وقد تعمد الإكثار من الزخارف مع النقاط وحركات التشكيل، ليوحي إلى ذهن المشاهد بعظم وكثرة كلام الله الخالد في امتداد الحياة، والذي قال عنه جل جلاله: ﴿قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِۦ مَدَدًا﴾.
ولأن المحمود حريص على طبع لوحاته في الخط الديواني بالطابع التشكيلي الحديث، فقد أبرزت الألوان المستخدمة في اللوحة إخلاصه لذلك التوجه، حيث كان اختياره للون الأزرق - بمستويات مختلفة – إشارة إلى ما يوحي إليه هذا النص/القرآن من ثقة في الله وفي كتابه ورسوله الذي أنزله عليه، ومن صدق؛ أظهر إعجازه أن الإيمان به إيمان بالحقيقة المطلقة، كما كان اختياره للون الأخضر متداخلاً بخفة ببعض الألوان الأخرى إشارة إلى الانسجام النفسي الذي يبعه ذلك الإيمان.
*إضاءة
ولد الفنان عبد الرزاق محمود سنة 1980، ويقيم في الإمارات منذ صغره، حاصل على دبلوم في الفنون التطبيقية وآخر في التصميم الإعلاني، ويعمل منذ سنة 2008 مدرساً لفن الخط العربي في مركز كلباء للفنون التابع لمؤسسة الشارقة للفنون، وحصل على العديد من الجوائز الدولية في مجال الخط، مثل: جائزة الخط الديواني في مسابقة «أرسيكا» بتركيا سنة 2022، والجائزتين الأولى والثانية في مسابقة «عكاظ الدولية» بالسعودية، والجائزة الأولى بمسابقة «الفجيرة الدولية لفن الخط العربي»، فئة الخط الديواني سنة 2022، والجائزة الثانية لخط الديواني الجلي، في مسابقة «الجامع الكبير» بالكويت، وجائزة «الاتجاه الأصيل» في ملتقى الشارقة لفن الخط 2022، وشارك في العديد من الفعاليات والمعارض الخطية مثل: ملتقى الشارقة للخط العربي، ومعارض جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، ومعارض جمعية الإمارات لفن الخط العربي والزخرفة الإسلامية، وملتقى خطاطي العالم الإسلامي في إسطنبول، كما شارك في تحكيم عدة مسابقات خطية من بينها جائزة «البردة» الإماراتية في دورتها الـ16، وقدّم عدة دورات تعليمية في المجال.
