عادي

جدل «الفلاش» بين السرد والشعر

23:00 مساء
قراءة 7 دقائق
جدل «الفلاش» بين السرد والشعر

القاهرة: مدحت صفوت

في عالمنا المعاصر الذي يتسم بالسرعة والتطور التكنولوجي المتسارع، ظهرت ظواهر أدبية جديدة عدّة تحمل في طياتها تحديات وإمكانات جديدة، من بين هذه الظواهر، برزت القصة الومضة والقصيدة الومضة، الفلاش، وهما شكلان أدبيان قصيران للغاية، أثارا جدلاً واسعاً حول ماهيتهما وهل هما مجرد استجابة سريعة لمتطلبات عصر التواصل الاجتماعي أم أنهما يمثلان شكلاً أدبياً مستقلاً له تاريخه وخصائصه الفنية؟

لا شك أن عصر التواصل التكنولوجي قد أثر بشكل كبير في الكتابة الأدبية. وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصة رئيسية لنشر القصص والقصائد القصيرة، ما أدى إلى زيادة شعبية الأشكال الأدبية المختصرة. ففي هذا العصر، يبحث القرّاء عن محتوى سريع وسهل الاستهلاك، ما يجعل هذه الأشكال الأدبية مثالية لتلبية هذه الاحتياجات.

هنا، نلاحظ وجود تيارين، الأول يرى أننا نعيش عصر الرواية أو السرديات المطولة، والتيار الأخير يعتقد أننا في عصر السرعة، ومع تزايد كمية المعلومات المتاحة، أصبح القارئ في نظر التيار الثاني يبحث عن النصوص القصيرة والمباشرة التي يمكن قراءتها بسرعة، فضلاً عن سهولة الوصول إلى مختلف المنصات الرقمية وتعدد المصادر، التي أدت في النهاية إلى تشتت الانتباه، ما يدفع الشعراء والقصاصين إلى صياغة قصائد وقصص أكثر إيجازاً وقدرة على جذب الانتباه.

  • إيجاز

القصة الومضة، المعروفة أيضاً باسم القصة القصيرة جداً، شكل من أشكال السرد الأدبي الذي يتميز بالإيجاز الشديد. عادةً ما تكون هذه القصص أقل من صفحة، وغالباً ما تكون أقصر من ذلك بكثير. تتميز القصة الومضة بقدرتها على تقديم حبكة متكاملة وشخصيات معقدة في مساحة محدودة للغاية. وظهرت القصة الومضة كنوع أدبي مستقل في أواخر القرن العشرين، لكنها استمدت جذورها من تقاليد السرد القصير، التي تعود إلى العصور القديمة. ولا تزال القصة الومضة تُعنى بتطور الشخصية والحبكة. لكن الومضة عموماً تعود إلى ما قبل التاريخ، حيث التسجيل بعبارات قصيرة أو إشارات سريعة عابرة، بما في ذلك الحكايات والأمثال، ولا سيما حكايات إيسوب في الغرب، وحكايات بانتشاتانترا وجاتاكا في الهند. وتشمل الأمثلة اللاحقة حكايات نصر الدين. وفي الولايات المتحدة، يمكن العثور على أشكال مبكرة من القصص القصيرة في القرن التاسع عشر، ولا سيما في شخصيات والت ويتمان وأمبروز بيرس وكيت شوبان.

وفي عشرينيات القرن العشرين، كان يُشار إلى القصص القصيرة باسم «القصة القصيرة» وارتبطت بمجلة كوزموبوليتان، وفي ثلاثينيات القرن العشرين، تم جمعها في مختارات مثل القصة القصيرة الأمريكية القصيرة. كما كان سومرست موم مثالاً بارزاً، حيث كانت مجموعته القصصية القصيرة جداً (1936) من أوائل المجموعات. وفي اليابان، اكتسبت القصص القصيرة شهرة كبيرة في فترة ما بعد الحرب، وخاصة من خلال ميتشيو تسوزوكي.

في عام 1986، نظم جيروم ستيرن في جامعة ولاية فلوريدا مسابقة أفضل قصة قصيرة جداً في العالم للقصص التي تقل عن 250 كلمة. حصل مايكل مارتون، الفائز الأول، على 100 دولار وصندوق من برتقال فلوريدا كجائزة. وتواصل مجلة Southeast Review المسابقة لكنها زادت الحد الأقصى إلى 500 كلمة. وفي عام 1996، نشر ستيرن Micro Fiction: مختارات من القصص القصيرة جداً المأخوذة جزئياً من المسابقة.

  • تدشين المصطلح

ومع ذلك، لم يتم استخدام مصطلح «القصص القصيرة جداً» كجنس أو نوع من الخيال إلا في عام 1992. إذ صاغ المصطلح جيمس توماس الذي شارك مع دينيس توماس وتوم هازوكا في تحرير مختارات عام 1992 البارزة بعنوان «قصص قصيرة جداً: 72 قصة قصيرة جداً»،. ومنذ ذلك الحين اكتسب المصطلح قبولاً واسعاً كشكل، وخاصة في مختارات دبليو دبليو نورتون التي حررها توماس، و«قصص قصيرة جداً دولية» و«قصص قصيرة جداً إلى الأمام». وفي عام 2020، أنشأ مركز هاري رانسوم في جامعة تكساس في أوستن أول مجموعة منسقة من قطع قصص قصيرة جداً في الولايات المتحدة.

عربياً، بدأت القصة القصيرة جداً في الظهور وبشيء من الكثافة، إذ جرى نشر عدد من المجموعات القصصية التي تنتمي نوعياً إلى «قصة الومضة»، وكثير منها مجموعات اتسمت بالتميز الكتابي والأسلوبي وحققت بعض الرواج، واحدة من هذه المجموعات «زغروة تليق بجنازة» (مئة حكاية) للقاص والروائي المصري أحمد إبراهيم الشريف، والتي تضم 100 حكاية في 100 صفحة، أي صفحة قصيرة لكل قصة، وتتسم جميعاً بوحدة نسبية من الطول، تبدو هيكلاً فنياً للعمل يعتمد التكثيف الدلالي والإيقاع السردي المُناوِر.

وتدور الومضات القصصية حول مواقف إنسانية تجمع بين الضحك والبكاء، وتراقب الإنسان في مواقف مختلفة ومتنوعة، وتقدم في مجموعها سيرة مكتملة لآلام الإنسان وأفراحه، وقد لاقت المجموعة ترحيبا نقدياً كبيراً للدرجة التي اعتبرها بعضهم بوابة العودة إلى القصة القصيرة جداً على الساحة المصرية، وهو ما دفع فيما بعد كثير من كتّاب السرد إلى إصدار مجموعات تعتمد التقنيات ذاتها.

وفي السعودية، نشر القاص والمسرحي عبد العزيز عسيري مجموعته «أيام الشيح الأخيرة»، والتي وضع على غلافها عبارة تصنيفية تمثلت في «نصوص»، أي أنها نصوص عابرة، وهي أيضاً تقدم تصورات عابرة، لا فكرة مركزية ثابتة، إنما هي سلسلة من الأفكار التي تتفجر على نحو عنقودي، في نصوص قد تتجاوز السطر الواحد أحياناً، كما أن بعض نصوصها تراوح بين السرد والشعر، وربما بسبب هذه المراوحة صدّر الكاتب كلمة «نصوص» بدلاً من قصص قصيرة جداً، لكنها تنتمي في النهاية إلى سياق السرد والقصّ أكثر من انتمائها إلى سياق آخر، ما يذكر بمقولة الناقد المصري الراحل شكري عياد «دع التصنيف للمتحفيين».

ولم يكن الانتشار المشار إليه جديداً على القصة الومضة، بل يمكن القول إنه «عودة» للقصة القصيرة جداً، بعدما كانت حاضرة وعلى نحو واضح وأكثر بروزاً، ما دفع بعضهم للتوقف أمامها كجنس أدبي بالدراسة أو نشر المختارات، كجهد الأديب والباحث الببليوجرافي خالد أحمد اليوسف حول القصة القصيرة جداً في السعودية والذي صدر منذ نحو 8 سنوات، ك«دراسة ببليومرتية تفصيلية عن هذا الواقع المفرح للقصة القصرية جداً».

فيما خصصت الناقدة هياء مواش دراستها الصادرة العام الجاري حول القصة القصيرة جدّاً النسائية، تنظيراً وتطبيقاً مبرزة السمات الجمالية، وتحليل الدلالات من خلال معطيات الشكل وما يحمله من قضايا ثقافية واجتماعية وإنسانية، تسهم في إثراء ثقافة المتلقي في قراءة الرؤى الفكرية وتعزيز التوجه القيمي الوطني والإنساني؛ لمرونة القصة القصيرة جدّاً في مزامنة سرعة العصر بالاستعانة بأوعية التواصل الرقمية في نقل نصوصها الإبداعية.

  • قفزة القلب

على صعيد آخر، نقرأ القصيدة الومضة؛ وهي شكل من أشكال الشعر يتميز بالإيجاز والتركيز على اللحظة الشعرية. غالباً ما تكون هذه القصائد قصيرة جداً، تتألف من بضعة أسطر فقط، وتركز على تصوير مشهد أو شعور معين بدقة وإيجاز. وربما يكون أهم شيء في أي نوع من الكتابة هو «قفزة القلب»، الفكرة التي صاغها البريطاني وليام وردزوورث كشاعر يقفز قلبي عندما أشاهد قوس قزح في السماء، ثم كتب لاحقاً في القصيدة «الطفل هو والد الرجل»، ومن المحتمل أن مقصده، أن الأطفال لديهم الكثير لتعليمه للكبار، أو أنهم أسرع بكثير في القفز من القلب.

وبالطبع، تختلف القصيدة الومضة عن شعر الهايكو الياباني، في أن الأولى لا تلتزم بالضرورة بالهيكل الصارم للهايكو (5-7-5 مقاطع)، وتتمتع بحرية أكبر في الشكل والمضمون، ما يسمح للشاعر بالتعبير عن أفكاره ومشاعره بطرق متنوعة، وفي إطار التعريف بالهايكو، دشن الناقد والشاعر أحمد يحيى القيسي مطلع العام الجاري «نادي الهايكو السعودي»، كأول منصة تسلط الضوء على فنّ الهايكو وتعرّف به وبمبدعيه العرب.

الاختلاف بين شعر الومضة أو الفلاش والهايكو دفع الناقدة الأكاديمية حنان الحارثي إلى دراسة الفوارق بين النوعين من منظور مقارن في دراسة باللغة الإنجليزية، وترتكز على «مبدأ التأثير بين الحضارات والثقافات، والعلاقة بين الأشكال الشعرية المتشابهة في الأدبين العربي والياباني، شكلاً ومضموناً، في محاولة لتجنب الوقوع ضحية لقيود حكمنا الذاتي، والحذر من قراءة أدب الآخرين في ضوء فهمنا لتراثنا. وبهذه الطريقة يمكننا تجنب إيجاد أوجه تشابه زائفة بين أدبنا وأدب الآخرين».

ومنذ سبعينات القرن العشرين، ثمة تزايد في التوجه إلى كتابة قصيدة الومضة، بوصفها وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شكلاً من أشكال الحداثة، آلية فنية تختزل التناقضات بتعبيرات مقتضبة، ما أدى إلى إثراء المشهد الشعري وتنوع الأشكال والأصوات، في ظل بحث الشعراء عن طرق جديدة للتعبير عن أنفسهم.

وتذهب دراسات تاريخ الأدب إلى أن قصيدة الومضة ليست مبتورة عن التراث العربي، فيمكن أن تتقاطع مع «المقطعات الشعرية» في العصور القديمة، كما يتضح في ديوان «البيت الواحد» لأدونيس، ثمّ تطويره إلى التوقيعات في العصر العباسي كأشعار بشار بن برد وأبي العتاهية وأبي العلاء المعري.

أيّاً كان المرجع التاريخي أو الصلة الفنية بين قصيدة الفلاش والأشكال التراثية، فإن التقنيات الرقمية تغزو عالمنا اليوم، بدءاً من أجهزة الكمبيوتر، والهواتف الذكية، حتى أدوات المطابخ والغسالات وصولاً إلى السيارات، صف الأمر كما شئت، فمنذ عقود قليلة ومع إطلاق أول كمبيوتر بدا الأمر رفاهية، الآن أصبحت الحياة من دون التكنولوجيا لا يمكن تصورها، إلى الدرجة التي نحمل فيها باستمرار جهازاً في جيوبنا، هاتفاً ذكياً، بعد أن نجحت هذه التقنيات الرقمية في تكييف أسلوب حياتنا تماماً وقلبه رأساً على عقب.

  • عواطف تقنية

مع الوقت، تعقدت علاقتنا بالتكنولوجيا الرقمية على نحو مطرد، ففي هذه الأيام، لن يغادر معظم الأشخاص المنزل من دون هواتفهم الذكية أو الأجهزة اللوحية أو الكمبيوتر المحمول، في اتصال ينتج علاقة فريدة بين الفرد والجهاز، الإنسان والآلة، والأخيرة لم تعد مجرد أداة لتنفيذ مهمة واحدة أو إجراء وحيد، وإنما أصبحت امتداداً لشخصيتنا، ما يمكّننا من الاستجابة لمتطلبات المجتمع الحالية، وبطريقة ماكرة جداً، أصبحت التكنولوجيا متشابكة في حياتنا اليومية وحياتنا الجسدية؛ بحيث أصبح من الصعب جداً التمييز بين الحياتين، هنا دون وعي منا نقدم التكنولوجيا في حديثنا كما لو كانت لديها قوة إرادتها الخاصة.

وفي ظل هذا التعقيد والتشابك، ثمة من يتحدث عن العواطف التكنولوجية، وهي إضفاء السمات الإنسانية على المخترعات التكنولوجية، الأمر الذي يفتح باب مخاوف المفكرين والفلاسفة على مستقبل العواطف الإنسانية، وطبيعتها الخاصة التي لا يمكن قياسها أو تأطيرها آلياً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y47ch2v5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"