حقوق الفقراء في قبضة الليبرالية الشرسة

02:41 صباحا
قراءة 5 دقائق

وشهد شاهد من أهلها..

الشاهد الذي نعنيه هو المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، وهو مجلس حكومي، حين أصدر تقريره السنوي الرابع 2007-،2008 وأذاعه قبل أيام قليلة، مركزا على حالة حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، جنبا إلى جنب مع حقوقه السياسية والمدنية.

وهذا تركيز مطلوب بشدة، لأن الذهن العام ينصرف عادة عند الحديث عن حقوق الإنسان، إلى الحقوق السياسية والمدنية، مثل حرية الرأي والتعبير وحرية تكوين الأحزاب، والمشاركة الشعبية الفعالة، وتداول السلطة وتخليص الحريات الأساسية من القيود والعقوبات المشددة.

لكن لحقوق الإنسان جانباً آخر أهم، ونعني الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي تتعرض في مصر لضغوط عنيفة، في ظل سياسة اللبرلة الاقتصادية والخصخصة وإطلاق آليات السوق والعرض والطلب، من دون توفير مظلة أمان اجتماعي حقيقية، توفر للفقراء المتزايدة أعدادهم شبكة العدالة الاجتماعية الضرورية، التي تراعيها الليبرالية الحقيقية، لكن الليبرالية الشرسة التي يريد البعض تطبيقها في مصر من دون ضوابط، لا تراعي شيئاً من ذلك، فإذا بالنتيجة أن الفقراء يزدادون عدداً وإحباطاً وفقراً، والأثرياء يزدادون ثروة وسلطة واحتكاراً.

يقول تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان نصاً: إن حماية حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، تمثل اليوم حاجة ملحة وأولوية ضرورية، في ظل تزايد المعاناة المعيشية للفئات الاجتماعية الأكثر فقراً وحرماناً، كما يرى المجلس أن مواجهة تفاقم المعاناة المعيشية للفئات الأكثر احتياجاً، تستدعي اضطلاع الدولة بمسؤولياتها في محاصرة الفقر وتوفير العدالة الاجتماعية، وتنظيم حملة اجتماعية واعية ومنظمة لإعلاء قيمة التكافل الاجتماعي وتحقيق التضامن الإنساني، بين الفئات القادرة والفئات الفقيرة في المجتمع.

والمعنى واضح، ذلك أنه إذا كانت حقوق الإنسان السياسية والمدنية تعاني من انتهاكات وضغوط (رصدها التقرير بتوسع وتعمق) فإن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان المصري، تعاني هي الأخرى من انتهاكات وضغوط أشد، وقوع عبئها على كاهل الفقر، وكذلك انتقد التقرير تخلي الدولة أو تقاعسها عن مكافحة الفقر وتوفير العدالة الاجتماعية، وذلك بالضبط ما حذرنا ونحذر من مخاطره، على وحدة وتماسك مجتمع قديم مثل المجتمع المصري عاش على التكافل.

ونكرر أن إيمان بعض من يمسكون بالقرار في الدولة، بالليبرالية الشرسة التي تسود أجواء العالم، من دون النظر إلى مخاطرها وتأثيراتها المدمرة خصوصاً في الفقراء، وهم يبلغون اليوم نحو نصف المجتمع، قد دفع إلى المغالاة والتسرع في تطبيق سياسات مزعجة، زادت من مساحة الفقر والبطالة والعشوائيات، فضلاً عن الغلاء الجنوني في أسعار السلع الرئيسية وكذلك خدمات الصحة والتعليم والمواصلات والسكن.. الخ.

ولم يكن غريباً في ظل هذه الليبرالية الشرسة، أن يشهد عام 2007 المنقضي انفجارات متتالية، بدءاً بأزمة مياه الشرب والري، ثم أزمة نقص الخبز، وصولاً للارتفاع الرهيب في أسعار المواد الغذائية وأراضي البناء ومواده، مما تعجز أمامه الأغلبية الساحقة فتلوذ بالتمرد وتعتصم بالاحتقان.

في تبيان هذا، يقول تقرير حقوق الإنسان، إن الحق في العيش الكريم يعد واحداً من أبرز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وينصرف أساساً إلى ضمان الغذاء والسكن وكذلك التحسين المتواصل لمستوى المعيشة ويتصل بذلك بصفة أساسية بمكافحة الفقر ودعم شبكات الضمان الاجتماعي.

وقد شهد عام 2007 ثلاثة تحديات كبرى في مواجهة الحق في العيش الكريم هذا، أولها الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية الذي حد من قدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم الأساسية.

وثاني التحديات تمثل في الارتفاع غير المسبوق في أسعار أراضي البناء وأجور المساكن، مما أعجز شرائح واسعة من المواطنين عن الحصول على مساكن، أو حتى تحقيق ذلك في الأمد المنظور.

ويأتي التحدي الثالث وقد تمثل في عجز الزيادة التي قررتها الدولة في الأجور عن مواجهة التحديين الأول والثاني، وبالتالي عجزها عن بث الأمل في النفوس الغاضبة الحانقة.

هكذا تركت الدولة، الليبرالية الشرسة، بقواعد آليات السوق المنفلتة، تدهس الأغلبية الساحقة من الشعب، وتحرمها من أهم حقين من حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وهما حق الغذاء وحق المأوى والسكن بعد أن تخلت الدولة فجأة عن مسؤولياتها الرئيسية، في توفير الحياة الكريمة لكل مواطن وبعد أن غابت الرؤية المجتمعية والفلسفة السياسية العامة.

وبسرعة شديدة ظهرت إحدى نتائج هذه السياسات لليبرالية الشرسة، وتمثلت في ظهور 900 منطقة عشوائية يسكنها ما بين 11 و17 مليون مصري، بينهم عدد كبير من سكان المقابر والمدافن، وفي حين تنظر الأجهزة الرسمية إلى هذه العشوائيات على أنها مصدر خطر للجريمة المنظمة والتطرف الديني (وهذا أمر متوقع) فإن خبراء حقوق الإنسان يعتبرون أن 70 في المائة منها قابل للتطوير، لو وفرت الدولة 180 مليار جنيه لمعالجة أوضاعها خلال خمس سنوات على أقصى تقدير.

ولعلنا نلاحظ، أنه في تناقض كامل مع خطورة اتساع مساحات الفقر والفقراء وانتشار العشوائيات، مستوطنات التطرف والانحراف، نتيجة الإهمال المتواصل والتجاهل الرسمي لمخاطر تحول المجتمع بمدنه الكبرى وقراه الصغرى، إلى عشوائيات تؤوي الفقراء والمعدمين المحبطين وتعاني من النقص الرهيب في الخدمات والمرافق.

فإن الظاهرة المقابلة، هي الترويج الهائل لما يسمى مدن الصفوة الجديدة، التي تزيغ الأعين وتزرع الحقد في القلوب المكلومة والبطون الجائعة، عبر حملات الدعاية والإعلان، عن قصور فاخرة ومساكن مرفهة للقادرين فقط، حيث تتراوح أسعار القصور والفلل ما بين 25 و50 مليون جنيه، أما ثمن الشقة فيبدأ بخمسة ملايين فقط.

وحين ينظر بعض دعاة الليبرالية الشرسة، إلى هذه المدن الجديدة ذات القصور الفارهة والحدائق الوارفة وملاعب الجولف ومولات التسوق المغرية، ومنتجعات المصايف والمشاتي، على أنها أحد تجليات النمو وارتفاع القدرة الشرائية والرواج في المجتمع فإن دعاة العدالة الاجتماعية، من أمثالنا، يرون فيها استفزازاً اجتماعياً مخيفاً وانحرافاً اقتصادياً واضحاً، يركز الثروة متحالفة مع السلطة في فئة صغيرة من الأثرياء، ورجال الأعمال القادرين، ويدفع بالأغلبية الساحقة نحو سفح الفقر والإحباط والتطرف وعلى هؤلاء ألا يحقدوا على أصحاب القصور والمدن والمنتجعات الجديدة.

من حقنا بل من واجبنا الاستمرار في نقد هذه السياسات التي يتبناها هواة الليبرالية الشرسة، من دون تعمق في دراسة آثارها في الفئات الأكثر فقراً والأولى بالرعاية.. والأولى بالرعاية هو توفير مياه الشرب والخبز للبشر الذين يشكون العطش والجوع، بدلاً من الإسراف في المياه لري ملاعب الجولف وحدائق مدن القصور الجديدة لكي تبهج الناظرين.

الأولى بالرعاية هو توفير مظلة ضمان وأمان اجتماعي لأكثر من نصف المجتمع يعيشون تحت خط الفقر، تكفل لهم حق الحياة الكريمة وتضمن لهم حق الغذاء وحق السكن وحق العمل وحق الحصول على خدمات معقولة، ولا نقول متميزة، من التعليم والصحة والمعرفة وتحميهم من غول الغلاء الفاحش والاحتكار الرهيب واستغلال سياسات الليبرالية الشرسة، للإثراء غير المشروع، وللقبض على كل مقاليد السلطة والثروة، فوق كرامة بل فوق جثث ملايين الفقراء.

ترى من أين استلهم هؤلاء الهواة هذه السياسات المدمرة لليبرالية الشرسة؟

آخر الكلام: يقول عمر بن الفارض:

أتعبتَ نفسكَ في نصيحة من يرى

أن لا يرى الإقبالَ والإفلاحا

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"