تقويض الحدود الوطنية

02:49 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

شكّل انتشار مسار العولمة في العقود الأخيرة من القرن الماضي تحديات كبرى بالنسبة لجغرافية الدول ولحدودها الوطنية، حيث إنه وبموازاة الحديث عن إلغاء الحدود ودخول العالم مرحلة السماوات المفتوحة، بل وتحوّله إلى قرية صغيرة مع انتشار الشركات المتعددة الجنسيات وتعاظم نفوذها في مختلف القارات، تكاثر الحديث أيضاً عن الكيانات العرقية والمذهبية وانتشرت على أنقاض الحدود الوطنية للدول حدود أخرى أكثر تجزئة وأكثر انغلاقاً على نفسها، الأمر الذي يدعونا إلى تأمل إشكالية الحدود وفق رؤية جديدة أكثر واقعية وأكثر بعداً عن المزايدات السياسية، لأن الحدود هي في واقع الأمر مسألة تشبه وضع سياج رمزي من أجل تحديد المجال الذي تتحرك فيه الهويات الشخصية والجماعية للأفراد والأمم. وبالتالي فإنه علينا أن نحرص كل الحرص لكي لا تتحوّل المثل السياسية الجامعة وعناصر الهوية المشتركة، إلى أدوات لهدم وتقويض ما حققته الكيانات الوطنية من مكاسب ملموسة لكل الشعوب والنخب السياسية، التي ما زالت تؤمن- في مجملها- بضرورة وأهمية تقريظ ومن ثمة الدفاع، عن الحدود الوطنية للدول في مواجهة كل المشاريع التي تريد أن تدفع الشعوب إلى تبني أجندات مختلفة عن مشاريع دولها الوطنية.
يترتب الإقرار بداية أن الحدود هي مسألة ثقافية وأخلاقية في المقام الأول وأن من يرفض الاعتراف بها، يرفض في اللحظة نفسها تقبّل استقلالية الذات وخصوصياتها الهوياتية، لأنه لا يرى الأبعاد المتعددة والمركّبة للحدود ولا ينظر إليها إلاّ انطلاقا من تمظهراتها وتجلياتها الجغرافية. وحري بنا أن ننبه في هذا المقام إلى أن حرص الإنسان على رسم الخطوط والحدود الفاصلة بين الأشياء، هو رفض في اللحظة نفسها لواقع اللا تعيين واللا تحديد الذي يمثل عنواناً للفوضى العارمة. وعليه فإن البديل عن الحدود التي تقبل بتعدد الكيانات وتحترم التنوع والاختلاف، هي الجدران التي تُقصي وتلغي الآخر وترفض وجوده وهويته كما يقول الفيلسوف الفرنسي «ريجيس دوبري»، وتمثّل الحدود أبلغ رد على سياسات الجدران العازلة لأنها ترمز إلى احترام الآخر، وتحرص في اللحظة نفسها على احترام استقلال الهويات المختلفة. وبالتالي فإن الإمبراطوريات التي تدّعي إلغاء الحدود، تسعى -في اعتقادنا- إلى بسط هيمنتها من خلال العودة إلى أكثر أشكال الحدود تخلفاً وهمجية، وتضع في مقابل الحدود الوطنية والمدنية، حدوداً قبلية وعرقية ومذهبية، وتعمل على الإبقاء عليها من أجل إلغاء أي مفهوم محتمل أو ممكن للمواطنة، أو للمشاركة السياسية داخل دولة مدنية تحترم خصوصيات أفرادها. ومن ثمة فإن ضياع الحدود الوطنية هو ضياع للمؤسسات الوطنية، التي وجدت في الأساس لكي تجسِّد تطلعات الشعوب، ولتكافح من أجل رعاية مصالحها ولتجتهد في سبيل تحقيق تقسيم عادل للثروة ضمن نطاق جغرافي محدد لا يؤدي إلى تبديدها وضياعها.
الحدود هي إذاً، كناية معبِّرة عن دلالات ومعاني مسكن الكائن، ومن لا حدود له لا يمكن أن يدّعي استقلاليته في مسكنه الوجودي الخاص؛ ونستطيع أن نلاحظ في هذا الزمن، الذي يسمح فيه البعض لأنفسهم بتقريظ الفوضى الناجمة عن تقويض الحدود الوطنية للدول، أن العالم صار أكثر انقساماً وأضحت الشعوب أقل تقبلاً للاختلاف، حيث تم وضع أكثر من 27000 كلم من الحدود الجديدة في أوروبا ومنطقة أوراسيا منذ سنة 1991 التي احتفل فيها العالم بإعادة توحيد شطري ألمانيا. وهناك فضلاً عن ذلك، الآلاف من الجدران والحيطان الإلكترونية والأسلاك الشائكة التي يتم وضعها في مناطق متعددة من العالم، حيث يقوم الاستيطان الصهيوني ببناء جدار عنصري من أجل عزل الفلسطينيين وحرمانهم من التواصل فيما بينهم. ويحدث الشيء نفسه في أمريكا الشمالية، التي تعمل فيها الولايات المتحدة على إقامة جدار إلكتروني كبير على حدودها مع المكسيك من أجل منع مواطني أمريكا الجنوبية من التنقل نحو الشمال.
ويمكننا أن نزعم في هذه العجالة أن اختراق حدود الدول هو استباحة لعرضها ولشرفها واعتداء على خصوصيتها، وهو بمثابة دخول إلى البيوت من النوافذ دون استئذان.
أما الذين يسعون إلى إلغاء الحدود باسم الأديان فإنهم يتناسون أن عالماً بدون حدود هو في الأساس عالم بدون أديان، لأنه عالم يُصفّي كل حساباته مع الاختلاف ما بين العقائد وداخل العقيدة الواحدة نفسها، وبالتالي فإن اختفاء الحدود كما يقول «دوبري»، يمثّل عودة مشوّهة للعتيق، الذي يعني البداية الدائمة في لحظة أزمات الهوية وانمحاء خطوط التعرّف إلى الذات، حيث تصبح القبائل والعرقيات بديلاً عن الذوات المستقلة. وهذا ما يجعلنا نستنتج في نهاية هذا التحليل، أن الشعوب التي تفقد حدودها الوطنية، تتحوّل فجأة من دولة كاملة السيادة إلى محافظة ملحقة بكيان سياسي يملك أجندته الخاصة والمتعارضة مع أجندات الشعوب؛ وغني عن البيان أن الدولة التي لا حدود لها لا يمكنها أن تكون مضيافة ولا تستطيع أن تُكرم نزلاءها، تماماً كما يحدث لمن لا منزل له، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"