«عبء» الديمقراطية!

01:58 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الحسين شعبان

مثّل عنوان الندوة الافتتاحية لموسم أصيلة الثقافي الدولي (المغرب) لهذا العام إشكالات الواقع والتحدّي في آن، بين «الديمقراطية الموعودة» و«الديمقراطية المفقودة»، خصوصاً حين حمل سؤالاً مكمّلاً: «أين الخلاص؟» بعد أن وضع «عبء الديمقراطية الثقيل» في الصدارة.
لم يحدث أن واجهت الديمقراطية بصفتها المعيارية أو الإجرائية، مأزقاً مثلما تواجهه اليوم، فعلى مدى العقود الثلاثة ونيّف الماضية يمكنني أن أستحضر كمّاً هائلاً من المشاركات والدراسات والأبحاث والمؤتمرات بشأنها، وأتوقّف هنا عند ثلاثة محافل مهمة كان آخرها جلسة عصف فكري «أكاديمي» نظّمتها جامعة فينيسيا (إيطاليا) (مايو / أيار 2019) حول «مصادر الديمقراطية» وقبلها بعقد ونصف من الزمان، ندوة دولية جرى تنظيمها في سيؤول (كوريا الجنوبية) خريف عام 2002، حول «آفاق الديمقراطية» بحضور وزيرة خارجية الولايات المتحدة مادلين أولبرايت، وذلك عشية غزو العراق، وسبقتها ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في قبرص (ليماسول) 1983 حول «أزمة الديمقراطية في الوطن العربي».
ولم تكن الديمقراطية حينها، وخصوصاً في عالمنا العربي مطروحة على بساط البحث كخيار للحكم، خصوصاً في ظلّ هيمنة التيارات الأيديولوجية الشمولية آنذاك: القومية واليسارية والإسلامية. ولذلك يأتي «سؤال أصيلة»، بعد هذه السنوات، استفهاماً مثيراً، فهل وصلت الديمقراطية إلى طريق مسدود؟ وهل ثمة أسلوب حكم آخر أفضل منها أو يتجاوزها؟

لقد اجتاحت الموجة الديمقراطية آخر ما تبقى من قلاع الدكتاتورية والاستبداد في أوروبا الغربية في سبعينات القرن الماضي، وشملت اليونان والبرتغال وإسبانيا، وبدأ التململ في أوروبا الشرقية التي انتقلت من أنظمة شمولية إلى أنظمة تتوجه صوب الديمقراطية، ولا سيّما بعد انهيار جدار برلين في ال 9 من نوفمبر / تشرين الثاني 1989 وانتهاء عهد الحرب الباردة، وامتدت الموجة إلى أمريكا اللاتينية وعدد من بلدان آسيا وإفريقيا، ومع أن رياح الديمقراطية انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط، إلّا أن حضورها اللاحق وإن جاء متأخراً، طرح عدداً من الأسئلة الجديدة - القديمة في ظل النكوص والتراجع وانسداد الأفق. وفاض الجدل حول مستقبل الديمقراطية وآفاقها، أكانت عريقة أم ناشئة أم جنينية؟

وتمثّل المبادئ الدستورية والقانونية العامة مثل: «الشعب مصدر السلطات»، و«حكم القانون»، و«فصل السلطات»، و«الحقوق والحريات»، و«تداول السلطة سلمياً»، الجوانب المعيارية - القيمية في الديمقراطية، في حين أن الجوانب الإجرائية العملانية تتّبع الآليات المناسبة لإدارة التنوّع وتنظيم شؤون الحكم، بما يتناسب مع تطور كل مجتمع.
وقد دلّت التجربة التاريخية لنحو ثلاثة قرون من الزمن أن الديمقراطية كنظام تتطوّر وتتقدّم، ولكن ليس دون مشكلات ونواقص وثغرات وعيوب، فهي ليست «مثالية»، بل هي كما عبّر عنها ونستون تشرشل «النظام الأقل سوءاً من غيرها»، وبهذا المعنى، فهي ليست «مخلّصاً» أو «خشبة نجاة» أو «وعداً»، بقدر ما تعبّر عن إمكانية إدارة الحكم وتداول السلطة وتنظيم التنوّع بالإقرار بالتعددية، ومثلما تحمل مشتركات قيمية وإنسانية عامة، فهي تمتلك خاصيّات خصوصية، وهو ما أشار إليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 47 الصادر في ال 4 من ديسمبر / كانون الأول عام 2000، والموسوم ب «تعزيز الديمقراطية وتوطيدها».

وعلى هذا الأساس، بإمكاننا القول: إن الديمقراطية سلسلة تجارب غير مكتملة، تتطوّر وتتغيّر وتتقدّم وتتراجع أحياناً، وأهم ما فيها هو قدرتها على «إدارة التنوّع» باتباع آليات سلمية، وحتى مع خروجها أحياناً على جانبها المعياري باختيار المحكومين للحكام بصورة خاطئة.
كما حصل مع هتلر أو مع صعود الموجة الشعبوية الجديدة، التي أوصلت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أو فوز الشعبويين حالياً في النمسا وهولندا والدنمارك وبولونيا وتشيكيا والمجر، فضلاً عن ارتفاع رصيدهم في فرنسا (حزب ماري لوبان) وإيطاليا (حركة ال 5 نجوم) وألمانيا (حزب البديل الديمقراطي) وغيرها، فإن معالجة مثل هذا التوجه «غير الديمقراطي» سيكون بوسائل ديمقراطية، لأنها حتى الآن الآلية السليمة والأكثر قدرة على معالجة أزمات الحكم وتنظيم علاقة الحاكمين بالمحكومين.
وفي منطقتنا العربية واجهت الديمقراطية طائفة من التحدّيات الكبرى التي تقف حائلاً أمام اجتيازها العتبة الأولى مثل «النزاعات الطائفية والمذهبية»، فضلاً عن «التوترات الإثنية والقومية»، و«الحروب الأهلية»، و«العنف المجتمعي بجميع صوره»، و«الإرهاب الدولي»، و«الحروب الإقليمية»، إضافة إلى «شحّ ثقافة الديمقراطية»، ولا سيّما مع تعاظم كوابح ما قبل الدولة وما دونها مثل العشائرية والجهوية وغيرها.
وهكذا، فالديمقراطية ظلّت تراوح «بين المحظور والمنظور»، وتتجاذبها عوامل شتى من شدّ وإرخاء ونجاح وإخفاق، لكنها على الرغم من كل نواقصها وعيوبها تمثل خيارات وآليات تستجيب للحدّ الأدنى من المشتركات الإنسانية والخصوصية الوطنية، وليس هناك موديل كامل ونهائي يصلح لجميع المجتمعات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"