الصين واليابان . . الشراكة والخصومة

02:56 صباحا
قراءة 4 دقائق
على الرغم من الاضطرابات التي سادت العلاقة الصينية - اليابانية في العام 2012 بسبب جزر سنكاكو - دياوو، فإن وصول فريق جديد إلى السلطة الصينية بقيادة الرئيس كسي جينبنغ، كاد أن يشكل فرصة للتأسيس لعلاقة جديدة بين البلدين تزيل طعم التاريخ المرير . لكن وصول شينزو، أبي زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي المحافظ المعروف بعدائه للصين، إلى رئاسة الوزراء في طوكيو في السنة نفسها، بدد هذه الفرصة .
مشكلة الحوار الذي بدأ بين البلدين في تسعينات القرن الماضي، أنه يجري في ظروف لا تعتبرها اليابان جد مؤاتية . فللمرة الأولى في تاريخهما المشترك تبدو الصين متفوقة على اليابان من نواح عدة: حق النقض - الفيتو في مجلس الأمن، قدرات عسكرية نووية وتقليدية هائلة، اقتصاد سيصبح الأول في العالم عما قريب . . إضافة إلى الخوف من أن تؤدي ثقة الصينيين المفرطة بأنفسهم إلى العزوف عن تطبيق نصيحة دينغ شياو بينغ، عراب النهوض الصيني في ثمانينات القرن الماضي، بوجوب أن تبقى الصين متواضعة ومن دون طموحات إقليمية ودولية . وقد جاءت استفزازات الصين الأخيرة في بحر الصين لتؤكد هذه المخاوف .
لكن فيما يتخطى الخصومة الاستراتيجية والنزاع الإقليمي حول الجزر وغيرها، فإن الشراكة التجارية بين البلدين تنمو باطراد . وهي ليست جديدة البتة، فمع بداية إصلاحات دينغ شياو بينغ وانفتاحه الليبرالي وفي وقت كانت تمارس القوى الغربية نوعاً من التردد والحذر حياله، كانت اليابان الشريك التجاري الأول للصين والتي كانت بدورها الشريك الثاني لليابان بعد الولايات المتحدة . هذه الشراكة راحت تتطور نحو نوع من الارتباط المتبادل ولكن لمصلحة الصين التي وجدت لاحقاً في تايوان وفي الاقتصادات الغربية المتقدمة شركاء من الدرجة الأولى، الأمر الذي حررها من التبعية حيال اليابان رغم استمرار تقدم الشراكة معه .
وعلى الرغم من الحذر وضعف الثقة في العلاقة ما بينهما فإن بكين وطوكيو مجبرتان على العمل معاً وعلى "تقاسم" الزعامة الاقتصادية لمنطقتهما . ولا ننسى أن نموذج التنمية الصيني، في العقود الثلاثة الأخيرة، استوحى الكثير من "المعجزة اليابانية" . وأدت الأزمتان الماليتان في آسيا العام 1997 ثم الولايات المتحدة والغرب عموماً في العام 2008 إلى إحداث تغييرات عميقة في آسيا الشمالية - الشرقية، وكشفت عن متانة اقتصادات المنطقة التي أضحت أقوى بكثير مما كانت عليه في أواخر القرن المنصرم . والملاحظ أن اقتصادات المنطقة كلها، من دون استثناء، تأثرت بأزمة العام 2008 بعد أن كانت الصين قد نجت بنفسها من تأثيرات أزمة العام ،1997 والعلاقة التجارية والاقتصادية بين القوى الآسيوية الأساسية (الصين واليابان وكوريا الجنوبية) التي حققت تقدماً منقطع النظير، تثير لدى المراقبين توقعات بمشهد جديد في آسيا الشمالية - الشرقية . فمسألة الاندماج الإقليمي الحقيقي التي لم يكن أحد يتصورها قبلاً باتت مطروحة من الآن وصاعداً، والعلاقة الصينية - اليابانية هي المحدد في هذا المضمار .
على المستوى الدبلوماسي يمكن للبلدين الاتفاق حول أمور كثيرة . ففي الملف الكوري - الشمالي يدعمان "الستاتيكو" مع العمل على تخفيف منسوب التوتر في شبه الجزيرة الكورية . واليابان التي تطمح للاستحواذ على مقعد دائم في مجلس الأمن لا بد لها من إرضاء جيرانها لاسيما الصين . فهذا المقعد يوفر لها مركز القوة العظمى بمعزل عن جيشها وقدراتها العسكرية التي تبقى ثانوية في عصر الجيو - إيكونومي . والصين بدورها تعلم بأن نفوذها الدولي يحتاج إلى انتعاش جيرانها في محيطها المباشر وإلى علاقات جيدة معهم .
لذلك يعتقد المراقبون أن الخطابات القومية والشوفينية في البلدين ليست سوى انعكاس لصراعات داخلية على السلطة، في وقت يمكن للتوازنات الإقليمية التخفيف من مخاطر التصعيد بل واللعب لمصلحة تقارب بطيء، ولكن أكيد وربما لا رجعة فيه بين العملاقين . إضافة إلى ذلك لا ننسى أن اليابان كانت تاريخياً تنحاز إلى الأقوى وتتحالف معه بحثاً عن مصالحها جراء هذا التحالف . وبذلك فالضرورة، وليس الاختيار، قد تفرض على طوكيو، مع الوقت، أن تتجه صوب بكين في انتظار أن تعبّد الشراكة الاقتصادية طريقاً مثل هذا التحالف . وهذا إن حصل فسيؤدي إلى "انقلاب العالم" نحو آسيا على ما تقول الكثير من التحليلات الغربية التي تعتقد بأن ذلك سيقود إلى بزوغ قوة اقتصادية لا نظير لها في تاريخ العالم .
لكن في انتظار ذلك ينبغي التصدي لعقبات وموانع كثيرة، والتوصل إلى تعريف واضح لنموذج صيني وصل إلى مرحلة عليا في تطوره ونموه . هل سيبقى نموذج "اقتصاد السوق الاشتراكي" أم يتطور إلى نموذج آخر؟ وما هذا النموذج الجديد؟ وما الموقف الياباني منه؟ صراع النماذج هو عقبة كبيرة أمام الحوار بين البلدين، لكنه قد يترك المجال أمام توازن معين في المنطقة . والطريق الذي ينبغي اجتيازه طويل ومتعرج، لكنه يفتح أمام الكثير الآمال .
من الجانب الياباني فإن السؤال الذي يطرح نفسه، ومنذ إمبراطورية ميجي: هل تترك اليابان الغرب لتعود إلى آسيا؟ على المستوى الاقتصادي يبدو أن هذا التوجه لا رجعة فيه وقد بدأ بالفعل . على المستوى الاستراتيجي والسياسي يرتبط الأمر بقدرة القادة في الصين واليابان على تنحية الخلافات الإيديولوجية والمشاعر القومية جانباً . وفي انتظار إعادة التموضع الضرورية هذه فإن العالم بدأ يشخص بأنظاره نحو المنطقة، وما استراتيجية الاستدارة الأمريكية نحو آسيا إلا من الدلائل على مثل هذا الشخوص .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"