فرضية التعدد اللغوي

03:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

يحسن بالمرء حين يتحدث في المسألة اللغوية في بلادنا (المغرب والبلاد العربية) أن يتحرى الدقة في انتقاء مفردات الوصف والتعبير والتحليل، وإتيان الرِّسل والريث قبل الانسياق وراء لوْك الجاهز من التعيينات المضللة التي يزدحم بها الكلام في المسألة. والقاعدة التي نتوسل العمل بأحكامها في هذا الباب، هي أن تحصيل الإدراك المطابق لموضوع ما، إنما يتأتى من طريق نقد المغلوط وتبديد الملتبس، ومن ثمة حُسن بناء المناسبة الدلالية بين الألفاظ/الكلمات والأشياء التي تعبر عنها. وكثير من التيه والضلال في تفكير مسألة ما وبحثها، إنما يبدأ من التسليم البدئي الأعمى بالمسميات وافتراضها مُبْتَدَهة، وبالتالي التفكير فيها من داخل منطق معطياتها، من غير زنتها بميزان الفحص أو من غير عرضها على النقد.
ذلك مثلاً، ما نُصادفه حين نجد أنفسنا أمام جدل بيزنطي حول التعدد اللغوي في مواجهة الواحدية (أو الأوحدية) اللغوية. الأخيرة مقدوح فيها أو قُل هكذا هي صارت في أزمنة معاصرة تواصلت فيها الثقافات والمعارف والأمم وتداخلت، وشهدت فيها هذه كلها على ثورة هائلة في التبادل الثقافي (التثاقف) على نحو بات فيه التّشرنُق على الذات واللسان الواحد ضرباً من الانتحار، أو من الحكم على النفَس بالتوقف عن ركوب سبيل الخروج من «الانجحار» إلى اجتراح سبل الانخراط الإيجابي في المحيط الكوني. حسناً يفعل الذين يُزرون بهذه «الواحدية اللغوية» ويشنعون عليها، خاصة إن كان مرغوبُهم من الازدراء بها والتشنيع، أن ينبهوا إلى مغبّة ما تدعونا أو تأخذنا إليه من انكفائية وانكماش. ولكن ما الذي يعنيه عندهم في المقابل، الدفاع عن التعدد اللغوي، أو قل للدقة ما الذي يفهمونه هُمْ من عبارة التعدد اللغوي، وهل يُطابق مدلولها ما هُم في مسعى إلى أن تكونَه أمور اللغة في بلادهم وثقافتهم؟
يشار بالتعدد اللغوي على جهة الإجمال إلى حال تشهد فيها ثقافة، ويشهد فيها مجتمع على وجود أكثر من لغتين في المجال التداولي العام، تتمتع بدرجات متفاوتة بالقابلية للاستخدام العمومي أو المتخصص. وهذه حال أشمل وأعلى من حال الازدواجية اللغوية التي هي في الواقع وحتى إشعار آخر الحال السائدة في معظم المجتمعات، وفي جملتها المجتمعات العربية. يُساء كثيراً، التعبير عن هذه الحال من الازدواجية (أو من الثنائية) اللغوية بعبارة «التعدد اللغوي»، ويقع الإصرار على استخدام هذا التعبير، المجافي لواقع الحال سعياً إلى التخليط والتغليط، ومن باب الزعم بوجود تعدد في مقابل «واحدية».
تتضح المسألة أكثر حين تنزل بها من العام إلى الخاص، من الجماعي إلى الفردي؛ إذ يشار بالتعدد اللغوي على صعيد الاستخدام الشخصي إلى الحال التي يكون فيها للفرد الواحد اكتساب لأكثر من لغتين، يَقوى على استخدامها جميعها كلاماً وقراءة وكتابة، أو استخدام اثنتين منها في أقل الأحوال استخداماً محكماً والبواقي استخداماً جزئياً (مثلاً القراءة بها دون الكتابة، أو الحديث التواصلي بها دون الكتابة).
يُؤخذ التعدد هنا بمعناه الاكتسابي لا بمعناه الاستعمالي الشامل، فيُقصد به حيازة القدرة على اكتساب أكثر من لغتين، ولكن من غير قدرة على استخدامها جميعها استخداماً شاملاً في القراءة والتواصل والكتابة.
بيّن إذن أن الغالب على مستخدمي اللغات المكتسبة أن يُتقنوا العمل باثنتين، وقد يكون في حكم القليل والنادر استخدام ثلاث وأربع وأكثر، إلا لدى من تمرسوا بالانتقال السلس من لغة لأخرى من المتخصصين في اللغات والترجمة والبحث العلمي، وهؤلاء قلة في كل مجتمع.
وقد بات مألوفاً في مدارس العالم وجامعاته أن تُفتح أقسام لغات عدة للتلاميذ والطلبة، فيما يكون المُكتسب منها دون ذلك بكثير (لغتان أو ثلاث). وإذ يقال إن حيازة لغات أخرى تُمكّن من طريق ولوج معاهد ومدارس لغوية خاصة، فإن الجواب أن ذلك الولوج أمر اختياري لا يدخل في باب التكوين الإلزامي الذي يتأهل به الأكثر وبالتالي، فهو لا يمس غير نسبة قليلة من المتعلمين.
لا يبقى من التعدد اللغوي في الواقع على الأقل في الواقع العربي غير الازدواجية اللغوية (العربية الفرنسية في المغرب العربي، والعربية الإنجليزية في المشرق والخليج العربيين)، وهي دون التعدد اللغوي، وهي عينها التي يخوض أنصارُها الصراع ضد «الواحدية اللغوية» (والمقصود بها هنا العربية) باسم التعدد اللغوي. ولكن هل ثمة حقاً، ازدواجية لغوية في المغرب والبلاد العربية؟
هل يمتلك المتعلم الواحد لغتين يتقن استخدامهما في الوقت عينه؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"