أمريكا تنحدر بإرادتها

03:21 صباحا
قراءة 5 دقائق

إذا كانت فترة الازدهار الواسع النطاق التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي دامت ستة عقود من الزمان، قد بلغت منتهاها حقاً، فإن المسؤولية عن هذا تقع على عاتق الولايات المتحدة وأوروبا . لقد تحولت السياسة، باستثناءات نادرة، إلى مهنة فاقدة لصدقيتها في مختلف أنحاء العالم الغربي . فالغد يُعامَل دوماً باعتباره أكثر أهمية من الأسبوع المقبل، والأسبوع المقبل يفوق في أهميته العام المقبل، ولا أحد يسعى إلى تأمين المستقبل البعيد، والآن يدفع الغرب الثمن .

قد تكون موهبة الرئيس باراك أوباما الفطرية وقدراته الطبيعية من بين الاستثناءات هنا، ولكنه يحارب في الولايات المتحدة قوى عاتية تتسم بالرجعية وضيق الأفق، فضلاً عن الشعبوية الغوغائية في هيئة حزب الشاي الذي قد يلحق به الهزيمة في عام ،2012 وهذا يعني بدوره إلحاق أشد الضرر بأمريكا .

لقد شاهد أصدقاء أمريكا في مختلف أنحاء العالم بكل الفزع والحيرة المشاجرة التي دارت مؤخراً على مسألة رفع سقف ديون الحكومة الفيدرالية، وعجز الكونغرس الأمريكي عن التوصل إلى أي حل وسط متوازن ومتفهم لاحتياجات المستقبل . بل إن ما حدث كان على العكس من ذلك تماماً، فكانت النتيجة بمثابة انتصار كبير حققه أتباع حزب الشاي، الذين كان هدفهم يتلخص، في ما يبدو، في تقليص التزامات الحكومة وإنفاقها إلى الحد الأدنى (بل إن البعض يعترضون حتى على وجود بنك مركزي)، والحفاظ على الإعفاءات الضريبية الشائنة التي منحها الرئيس السابق جورج دبليو بوش للأثرياء .

إن جذور المشكلات المالية الحالية في أمريكا تمتد إلى فترة طويلة من الإنفاق غير الممول . فقد تسببت حروب بوش في أفغانستان والعراق، والطريقة التي أدار بها الحرب العالمية ضد الإرهاب، في تفاقم الأمور سوءاً، وأصبح الموقف برمته غير قابل للاحتمال على الإطلاق، والحق أن أوباما ورث تركة شبه مستحيلة الحل .

في الأسابيع التي أعقبت الاتفاق على سقف الدين، بات من الواضح على نحو متزايد أن الحكم الرشيد قد يكون مستحيلاً في الولايات المتحدة . وسوف تهدر الأشهر المقبلة من الحملات الانتخابية للرئاسة الأمريكية في شجارات تافهة حول ما ينبغي أن يخفّض . والواقع أن ما جرى في الأسابيع الأخيرة لا يعطينا أي سبب للتفاؤل بقدرة المشرعين الأمريكيين على الارتقاء فوق السياسة الحزبية وسؤال أنفسهم: ما هو الأفضل لأمريكا؟

ومن غير المستغرب في ظل هذه الظروف أن تعود الأسواق المالية إلى التقلب الشديد . إن خفض الإنفاق الذي تقرر نتيجة لمناقشة سقف الدين، من شأنه أن يحدّ من النشاط الاقتصادي، وأن يقوّض بالتالي النمو ويزيد من صعوبة تقليص الدين . لا شك أن تقديم المزيد من الحوافز المالية لدعم النمو الاقتصادي، سوف يكون مصحوباً بمخاطر خاصة، وذلك بسبب سقف الدين وعامل آخر أكثر شؤماً: فأمريكا تعاني بالفعل ديوناً مفرطة، وهناك من العلامات ما يشير إلى أن كبار حاملي سندات الحكومة الأمريكية لم يعد بوسعهم أخيراً تحمل الحصول على مستحقاتهم بعملة تنخفض قيمتها على نحو مستمر .

والأمر الأكثر أهمية في هذا السياق هو أن الدعوة التي أطلقتها الصين بتقديم عملة احتياطية جديدة، كانت نابعة من إحباطها إزاء فشل الحكومات الكبرى سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا في إدارة شؤونها الاقتصادية بأي قدر من الواقعية والحس السليم . والواقع أن الصين تدرك أن أمريكا تمر بمصاعب هائلة (بل إنها تدرك هذا بشكل أكثر وضوحاً من إدراك الولايات المتحدة ذاتها له)، وأنه في ضوء الجو السياسي المسموم السائد في واشنطن الآن لن تكون هناك عودة سهلة إلى الحكم الرشيد، والاستقرار الاقتصادي، والنمو القوي .

بدأت زعامة أمريكا في الشؤون العالمية رحلة ضعفها بفضل نزعة بوش الانفرادية الأحادية، واليوم تأتي المشكلات الاقتصادية لتعزيز هذا الاتجاه . ولكي ينجح أوباما في عكس مسار الانحدار الأمريكي فإنه في احتياج شديد إلى الدعم من قِبَل الحزبين الجمهوري والديمقراطي لسياساته، ولكن الكونغرس الأمريكي أظهر حتى الآن عدم قدرته على تبني نهج قائم على المبادئ في التعامل مع مسؤولياته التشريعية .

وإذا نجحت الجهود الألمانية الفاترة في تثبيت الاستقرار في أوروبا بشكل أو آخر، فإن هذا يعني المزيد من تآكل مكانة الولايات المتحدة في العالم، وسوف تبدأ البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم في النظر إلى اليورو مرة أخرى بوصفه بديلاً للدولار وعملة احتياطية عالمية . والبديل، كما اقترحت الصين، يتلخص في تقديم عملة احتياطية جديدة .

إن هذه الحقائق تمثل تحوّلاً قوياً من نوع لم نشهده طوال حياتنا . فقد بات تفوق الصين اقتصادياً على الولايات المتحدة ملموساً الآن، ولن يؤدي هذا إلى الحد من نفوذ أمريكا في الأسواق المالية فحسب، بل سوف يحد أيضاً من قدرتها على استخدام القوة العسكرية .

وإذا أدى هذا إلى إرغام أمريكا على التراجع باتجاه ما أطلق عليه خبير العلاقات الدولية القوة الناعمة والدبلوماسية التعددية، فقد يكون ذلك أمراً طيباً . ولكن أتباع الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، خاصة الفصيل التابع له حزب الشاي، يبغضون مثل هذه التوجهات أشد البغض، وقد تؤدي تصرفاتهم إلى ترويع الآسيويين الذين يشعرون بالتوتر الشديد إزاء القوة العسكرية الصينية المتنامية .

ولم تعد الحجة المضادة أن أي عمليات بيع واسعة النطاق أو تقاعس من جانب الصين عن الاستمرار في شراء سندات الحكومة الأميركية من شأنه أن يضر بالصين بقدر ما يضر بالولايات المتحدة بالحجة الصالحة على الإطلاق . فبمرور كل عام تتوسع سوق الصين على مستوى العالم، وتمثل سوقها المحلية نسبة أكبر من ناتجها المحلي الإجمالي . ونتيجة لهذا، فإن الصين لن تكون في حاجة إلى دولار قوي على الأمد البعيد . ويتعين على الأمريكيين أن يسارعوا إلى تنظيم بيتهم الاقتصادي قبل أن تفقد الصين الحافز الذي قد يحملها على دعم الدولار .

في مناسبات عِدة أثناء فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تعلّمت الصين بعد التعرض لآلام عظيمة أن الاستخدام الفعّال للقوة العسكرية محدود . ففي فيتنام عجزت أمريكا عن تحقيق أهدافها، ولن تتقرر النتائج في العراق قبل سحب آخر القوات الأمريكية، أما في أفغانستان حيث تم بالفعل تحديد موعد الانسحاب، فمن الصعب أن نصدق أن أي دولة متماسكة موحدة من الممكن أن تنشأ هناك .

مع انحدار فاعلية القوة العسكرية تتنامى أهمية القوة الاقتصادية، ومن المؤكد أن إدراك مثل هذه الحقائق الأساسية والتعاون بين الحزبين في التعامل معها يشكل أهمية حاسمة في تشكيل مستقبل أمريكا، والغرب عموماً .

رئيس وزراء أستراليا الأسبق، والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"