شرخ عميق في التحالف الغربي

03:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي
يشكل منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السنوية مناسبة يستغلها زعماء كثيرون للتعبير عن وجهات نظرهم حيال قضايا وأزمات دولية وللدفاع عن مواقف بلادهم ومصالحها. وفي كل مرة هناك خطابات ينتظرها المحللون لأهميتها في ما يتعلق بقضايا دولية راهنة أو أزمات تهدد السلم الدولي.
هذه المرة، في الدورة 72، كان خطاب الرئيس الأمريكي ترامب منتظراً لأن رئيس الدولة الأعظم في العالم يعتلي هذا المنبر للمرة الأولى منذ وصوله إلى البيت الأبيض وهو لم يقدم إلى الآن «عقيدة» واضحة في السياسة الدولية ربما يشكل هذا المنبر مناسبة لعرضها وشرحها. كذلك كان خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون كونه، كما ترامب، يعتلي المنبر الأممي للمرة الأولى منذ وصوله إلى الإليزيه ولأنه يحمل أفكاراً جديدة عبر عنها خلال حملته الانتخابية وأوصلته إلى السلطة.
عقد الرئيسان الأمريكي والفرنسي لقاءً ثنائياً عشية إلقائهما لخطابيهما في 19سبتمبر/أيلول الجاري. وبعد كلمة ترامب بساعتين ألقى ماكرون خطابه الذي صاغه بعناية فائقة كما يبدو، وقد جاء كرد على ما قاله ترامب نقطة نقطة وفكرة فكرة، ليكشف التناقض الصارخ ما بين رؤيتي الرجلين، وبالتالي البلدين، حيال النظام الدولي والعالم ومعضلاته المعاصرة، ما يطرح أسئلة صعبة حول مستقبل التحالف الغربي.
الجزء الأول من كلمة ترامب كان خطاباً في السياسة الداخلية، من المستغرب أن يلقيه أمام ممثلي 193دولة منهم 130زعيم دولة أتوا لمناقشة الشؤون العالمية. كرر ترامب شعاره الانتخابي «أمريكا أولاً» ونيته بناء جيش أمريكي «أقوى من أي وقت مضى» ربما بهدف طمأنة ناخبيه الذين بدؤوا ينفضون عنه بسبب تردده وتراجعه عن بعض مواقفه.
كرر ترامب مفردة «السيادة» واحد وعشرين مرة ناصحاً الدول الأخرى بالعمل على تغليب مصالحها الوطنية وحماية سيادتها. هذه النبرة «السيادوية» الحمائية القومية تناقضت تماماً مع رؤية ايمانويل ماكرون لنظام دولي قائم «على التعددية والتشاور والتعاون بين الأمم واحترام الاتفاقات وأولوية العمل الدبلوماسي لحل الأزمات، بما فيها المستعصية».
هدد ترامب بالتدمير الكلي لكوريا الشمالية، وهذه اللهجة التهديدية مستغربة في صرح دولي قام أساساً لحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية. في المقابل رغم تنديده بممارسات بيونج يونج وبرنامجها النووي دعا ماكرون إلى استخدام الضغوط والعقوبات بحقها بديلاً عن التصعيد العسكري وطلب من الصين وروسيا، الشريكتين الاقتصاديتين الأساسيتين لها، بدفعها إلى طاولة المفاوضات.
كرر ترامب موقفه المعروف من الاتفاق النووي الإيراني، ورد عليه ماكرون بالدعوة إلى المحافظة على هذا الاتفاق لأنه «مفيد وأساسي للسلام» ولمنع إيران من الاستحواذ على السلاح النووي، في نظره.
ملف المناخ غاب كلياً عن خطاب ترامب كذلك الحديث عن الكارثة التي حلت ببلاده جراء الأعاصير التي ضربتها، اللهم إلا ليشكر الزعماء الذين أبدوا تعاطفهم بعد مرور الإعصار «إيرما» والكوارث البشرية والمادية التي خلفها وراءه، قائلاً بأن الشعب الأمريكي سيخرج من هذه المحنة أكثر عزماً من أي وقت مضى. في المقابل ذكّر ماكرون بخطورة التغير المناخي والكوارث الطبيعية التي يتسبب بها (غمز من قناة الأعاصير التي ضربت أمريكا) وبأهمية اتفاقية المناخ الموقعة في باريس في ديسمبر/كانون الأول 2015 مؤكداً أن لا رجوع البتة عنها ولا تفاوض حول تعديلها، تاركاً الباب مفتوحاً أمام الولايات المتحدة للعودة إليها في أي وقت.
بالنسبة للصحافة التي لا تتسم علاقة ترامب معها بالمودة طالب الرئيس الفرنسي مجلس الأمن بتعيين مبعوث دولي خاص من أجل حماية الصحفيين في العالم لأن لا شيء، في نظره، يبرر تقليص حرية الصحافة أو التعرض لها. كذلك دعا إلى إصلاح نظام الفيتو في مجلس الأمن الذي يصيبه بالشلل حيال المجازر التي تحدث في العالم. كما أعلن عن مبادرة فرنسية لمواجهة ما وصفه بالتطهير العرقي في ميانمار حيث اضطر 400 ألف من أقلية الروهينجا المسلمة إلى مغادرة بلادهم. وهذه الملفات غابت كلياً عن كلمة ترامب.
إنه العالم القديم القائم على الدول وعلاقات القوة وأولوية الدفاع عن المصالح الوطنية، في مواجهة العالم الجديد المعولم المتصل ببعضه البعض والذي يعي أهمية التحديات المشتركة الكبرى ومكافحة التغير المناخي والتصدي لمشاكل النمو وغيرها من تلك التي لا يمكن مواجهتها إلا بالشراكة والتعاون. عالمان مختلفان تماماً بل متناقضان كل التناقض عبر عن كل منهما رئيس القوة الأعظم والرئيس الفرنسي الشاب البراجماتي المتحمس. هذا التناقض الصارخ يطرح أسئلة خطيرة حول معنى ومستقبل التحالف الغربي لا سيما وأن ماكرون يعبر عن وجهة نظر الأوروبيين المؤمنين بضرورة تدعيم أسس البناء الأوروبي، ومنهم المستشارة الألمانية ميركل التي تستعد لولاية رابعة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"